IMLebanon

نحو تعليم لائق وكريم للشباب اللبنانيّ

 

يقول إراسموس: «يكمن الأمل العميق لكلّ أمّة في إيجاد التعليم اللائق لنشئها». أمّا في لبنان، فلا تنطبق هذه المقولة في الفترة الحاليّة. فأفضل الحقبات التي مرّت بها البلاد كانت مبنيّة على الاستثمار المتين في قطاع التعليم، وتكوين المفكّرين، ورجال الأعمال، وتأهيل المهنيّين الذين لم يتمكّنوا من بناء بلادهم بطرق إيجابيّة فحسب، بل توسّعت طموحاتهم لتشمل المنطقة العربيّة حتى أقاصي المعمورة. أمّا اليوم، فنجد أنّ أحد أكبر المخاطر التي يواجهها لبنان، يتجلّى في شلّ نظامه التعليميّ، والعجز أمام معضلة تقديم المضمون اللائق للمتعلِّم والعيش الكريم للمعلِّم.

في منارة الشرق، وعلى الرغم من الجهود البطوليّة والتزام العديد من المختصّين في التدريس والتعليم في البلاد، فإنّ الأزمات التي ضربت لبنان، بما في ذلك الاضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، والصحّيّة (جائحة كوفيد-١٩)، وانفجار مرفأ بيروت، أثّرت مجتمعة بوجهٍ خطير على قطاع التعليم، وتمّ تعطيل تدريس ما لا يقل عن ١,٢ مليون طالب في جميع أنحاء البلاد لأكثر من عام، والعديد منهم أصبحوا من دون تعليم منذ تشرين الأوّل ٢٠١٩.

 

يبلغ معدّل محو الأميّة بين السكان اللبنانيّين الذين تزيد أعمارهم عن ٢٥ عامًا ٨٩,٦٪، ويمثّل الإنفاق على التعليم ٢,٢٪ من الناتج المحلّي الإجماليّ اللبنانيّ. على الرغم من ذلك، يواجه التعليم في المدارس العامّة والخاصّة تحدّيات متعدِّدة، ويطالب المعلّمون المتعاقدون بتحسين ظروف عملهم. وتتمثّل أبرز الصعوبات في المدارس الرسميّة بنقص الأموال وعدم كفاية عدد المعلّمين بسبب الانخفاض الكبير في الرواتب. لذلك، قلّ عدد المعلِّمين المتعاقدين من ١٣,٥٠٠ في العام الدراسيّ ٢٠٢٠-٢٠٢١ إلى ٩,٧٠٠ في العام الدراسيّ ٢٠٢٢-٢٠٢٣، وانسحب ذلك على عدد المعلِّمين غير المتعاقدين. من دون أن ننسى معاناة وزارة التعليم من نقص الموظّفين الحكوميّين.

 

في الآونة الأخيرة، رأينا أنّ وعود وزارة التربيّة بتشكيل لجنة مصغّرة تضمّ أصحاب المدارس الخاصّة، ونقابة المعلّمين، ولجان أهالي الطلّاب، ارتقت إلى مستوى الفكرة أكثر منه للخطّة العمليّة المضبوطة. فلم تصل إلى حلّ مشترك يرضي الأطراف، ولا عرفنا مصير هذه اللجنة مع كلّ الآمال المعقودة على رؤيتها المشتركة لضبط فوضى الأقساط في المؤسَّسات التربويّة.

 

من ناحية أُخرى، تُطالب نقابة المعلِّمين أن تُدفع أجور المدرِّسين بنسبة تتراوح ما بين ٣٥ و٦٠٪ بالدولار الأميركيّ، بحسب التوزّع الجغرافيّ للمدارس. لكن، كيف يستطيع جميع الأهل وخصوصًا في القُرى والأرياف دفع ما يُقارب الـ٨٠٠ دولار أميركيّ سنويًّا كقسط مساهمة للمدارس؟ ومن يضمن عدم حدوث انفجار أمنيّ – اجتماعيّ في سجالٍ تجد فيه جميع الأطراف نفسها محقّة؟

 

قد تنجو المدارس الخاصّة من هذه المعضلة في ميلها إلى «دولرة» الأقساط، إلّا أنّها تتعرّض لانتقادات ولا سيّما من قبل لجان أولياء الأمور التي غالبًا ما تفشل في مواكبة هذه الزيادة. ويعتبر بعضهم أنّ ذلك يخالف القانون رقم ٥١٥ للعام ١٩٩٦ الذي ينظِّم موازنة المؤسِّسات الخاصّة ويلزمها بتخصيص ٣٥٪ من نفقاتها لتكاليف التشغيل والتطوير، و٦٥٪ لرواتب المعلِّمين.

 

بالطبع، يكشف هذا المشهد عجز الدولة اللبنانيّة عن سداد تكاليف التعليم، وما كان لجوء وزارة التربيّة إلى طلب سلفة تقدّر بـ ٥٥ مليون دولار أميركيّ، تُضاف إلى مبلغ الـ ١٥٠ مليون السنويّ، إلّا محاولة بائسة لن تعود بالحلول. فمن ناحية، لن تستطيع الحكومة صرف هذا المبلغ لعجزها. ومن ناحية أخرى، لن تستطيع هذه السلفة تعويض عجز قطاع التعليم العامّ، من دون مصادر مستدامة أخرى.

 

بالتأكيد، لا نُشكّك في رغبة أيّ طرف ببدء العام الدراسيّ بأفضل ما يمكن، رغم الظروف الصعبة والمأساة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. لكن لا يمكننا فصل ملف المدارس عن ملف اللاجئين السوريّين. فمن اللافت للنظر أنّ عدد الطلاب غير اللبنانيّين، ولا سيّما اللاجئين السوريّين، يعادل أو يكاد يماثل عدد الطلاب اللبنانيّين، إذ استقبلت ٩٥٥ مدرسة ابتدائيّة رسميّة ٢٠٥,٥٤٢ تلميذًا لبنانيًّا في العام الدراسيّ ٢٠٢٢-٢٠٢٣ و١٩٠,٥٩٤ من غير اللبنانيّين، موزّعين بين دوام الصباح وبعد الظهر.

 

تبقى هذه الأرقام غير دقيقة، إذ لا تنسيق بين وزارتي التربية والشؤون الاجتماعيّة بالنسبة الى ما يتعلّق بالطلّاب السوريّين. وبعضهم يتساءل: هل ثمّة تهويل للأرقام كي توَظَّف سياسيًّا، أو حتّى ماليًّا؟ وهل يمكن أن يُستعمل النازحون كورقة ضغط مع الجهات المانحة بسبب عدم مقدرة قطاع التعليم العامّ على استيعاب هذه الأرقام الكبيرة؟ هذا إن غُضّ الطرف عن محاولة تسجيل طلّاب سوريّين «وهميّين»، وتسجيل ساعات لمدرّسين غير متواجدين، لرفع «فاتورة» الدعم.

 

واقعيًّا، نجد أنّه لم يُدفع سوى ١٧ مليون دولار أميركيّ، من أصل ٢٤ مليون كان من المفترض أن تقدّمها الدول المانحة للبنان في العام الدراسيّ ٢٠٢١-٢٠٢٢. توزّعت بما يقارب ١٤٠ دولارًا لكلّ طالب غير لبنانيّ، مقابل ١٨,٧٥ دولارًا لكلّ طالب لبنانيّ. وإن افترضنا أنّ الجهات المانحة ستستمرّ بكرمها «الطائيّ»، فهي تعي أنّ آليّات الصرف والتوزيع ليست شفافة. فأين ستذهب هذه الأموال؟ وكيف ستوزّع الزيادات؟ والسؤال الأهمّ: هل ستُدفع بالدولار الأميركيّ؟

 

أمّا في المرحلة الثانويّة فالسيناريو مختلف، إذ انّ عدد الطلاب الأجانب أقلّ بكثير من عدد الطلاب اللبنانيّين. إضافة إلى ذلك، انخفض عدد الطلاب في التعليم الثانويّ الرسميّ اللبنانيّ بوجهٍ ملحوظ، حيث انحدر في العام الدراسيّ ٢٠٢٢-٢٠٢٣ إلى ٥٤,١٥١، من أصل ٦١٧٢٥ طالبًا في هذا المستوى. ومن المهمّ أيضًا ملاحظة انخفاض كبير في عدد المعلّمين، فانحصر عددهم من ٢,٩٥٨ في العام الدراسيّ ٢٠١٩-٢٠٢٠، إلى ٢,٣٥٦ في العام الدراسيّ ٢٠٢٢-٢٠٢٣، وانخفض إجماليّ عدد معلّمي المرحلة الثانويّة بفئاتهم كافّة من ١١,٢٨٥ إلى ٨,٤٢٤.

 

وفيما يتعلّق بالتعليم الخاصّ في لبنان يشكّل الطلّاب اللبنانيّون نسبة ٨١٪ مقابل ١٢٪ فقط من السوريّين. وتظهر البيانات أيضًا أنّ عدد الطلاب في المدارس الخاصّة، الذي بلغ حوالى ٧٦٥ ألف طالب في العام الدراسيّ ٢٠١٨-٢٠١٩، سجل ارتفاعًا حادًّا في العام الدراسيّ ٢٠٢٢-٢٠٢٣، ليتجاوز الآن عتبة الـ ٨٠٠ ألف طالب، فأصبحنا أمام حركة نزوح من العامّ إلى الخاصّ. كما تجدر الإشارة إلى أنّ المدرّسين يتقاضون، أسوة بنظرائهم في القطاع العامّ، رواتب أقلّ ممّا كانوا يتقاضونها قبل الأزمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، على الرغم من أنّ هذه الرواتب أعلى عمومًا من رواتب القطاع العامّ. فالرسوم الدراسيّة قد ارتفعت بمعدّل ٢٢٠٪ في المدارس الخاصّة، بين العامَين الدراسيّين ٢٠١٩-٢٠٢٠ و٢٠٢٢-٢٠٢٣. إلّا أنّ هذه الزيادة لم تصاحبها بالطبع زيادة مماثلة في رواتب المعلِّمين.

 

في المشهد العامّ يحنّ بعضهم إلى أيّام برز فيها التعلّم عن بُعد، ومن ثمّ التعليم الهجين كأحد الحلول الأقل تكلفة أمام تبعات غلاء المعيشة والتنقّل. إلّا أنّه عرّى ضعف البنية التحتيّة الرقميّة في البلد، ومحدوديّة الوصول إلى التكنولوجيا. وبقيت هذه العوامل عائقًا كبيرًا أمام العديد من الأشخاص في لبنان، وصَبّت معظم الأضرار في وادي الأكثر ضعفًا، أي الفقراء والمهمّشين. في الواقع، كانت النقابات التعليميّة أوّل من ساعد الموظّفين على اكتساب المهارات اللازمة للتعلّم عن بُعد. وبعد فترة طويلة، استفاد أعضاء هيئة التدريس أخيرًا من التدريب الذي نظّمته الحكومة. ورغم كلّ هذه الجهود، لم تتمكّن من تعويض الآثار السلبيّة الكبيرة التي خلّفتها الأزمة الاقتصاديّة والأوضاع المعيشيّة. إذ لم يكن لدى الآباء ولا أعضاء هيئة التدريس الوسائل اللازمة للحصول على التكنولوجيا اللازمة للتعلّم عن بعد.

 

بعيدًا عن أيّ موقف مُغالاة، نجد أنّ المتضرّر الأكبر هو القطاع التعليميّ نفسه، وخصوصًا في قطاعه العامّ. فمن دون الدعم المادّي الخارجي، لن تفتح المدارس أبوابها. إذ لا تكفي محاولات الدعم الفرديّة، أو المبادرات الحزبيّة وغيرها. وقد نشهد حركة دمج للمدارس العامّة لتخفيف التكلفة، واستدراك انخفاض أعداد التلاميذ في العديد منها، التي وصلت إلى أقل من ١٠٠ تلميذ. وفي غياب الخطط، ستستمرّ حركة نزوح الطلّاب نحو المدارس الخاصّة، التي تُعاني بدورها الكثير من الصعوبات، وذلك بالرغم من غلاء الأقساط لأهميّة الحصول على التعليم عند معظم اللبنانيّين، وضمان المستقبل، وإن كان يمهِّد لهم الطريق للهجرة خارج البلاد…

 

إنّ التعليم اللائق هو حقّ من حقوق الإنسان، إذ يوفِّر بوابة للنجاح الاقتصاديّ ويمنح الشبيبة المهارات اللازمة لتحقيق إمكاناتها. في مواجهة تحدّيات عالم حديث ومترابط، سيكون لبنان الناجح هو الذي يظلّ وفيًّا لجذوره كونه بلد متطلِّع إلى الخارج وحيويّ، يحثّه الفضول وحبّ البحث.

 

تلحّ الحاجة لمواجهة خطر التعليم بوجهٍ عامّ، ماليًّا وهيكليًّا، إلى تطبيق الإصلاحات وتنفيذ إعادة الهيكلة، والاستثمار في المساعدة الماليّة والتقنيّة لتعزيز نظام التعليم العامّ، وتحسين معايير التدريس والتعلّم، بما في ذلك التعليم الشامل، والتعلّم عن بعد. ولعلّ الخطوة الأولى تكمن في وضع الخطط الواضحة لدعم الحلقة الأضعف، أي الأساتذة، كي ينهضوا بدورهم بمستوى التعليم نفسه. فهم يعزفون «بالجملة» عن رسالة التعليم الّتي لم تعُد تؤمّن لهم العيش الكريم، إذ يسارعون إلى تقديم الإجازات والاستيداعات والاستقالات.

 

إنّ «الأضرار الجانبيّة» التي لحقت بالتعليم بسبب المأزق السياسيّ وعدم القدرة على مواجهة التحديّات الكبرى التي يواجهها لبنان هي أضرار خطيرة وجوهريّة. من هنا تأتي الحاجة إلى إعادة الاهتمام بجودة التعليم والنظر في عدّة أنواع من إجراءات الطوارئ، أولها فوريّة، مثل تلك التي تمّ تنفيذها لتمكين ٨٥,٠٠٠ طالب في المدارس المتضرِّرة من الكارثة في مرفأ بيروت، وإعادة دمجهم في مدارسهم في أسرع وقت ممكن، والحاجة إلى إجراءات أخرى في شكل دعم لمرة واحدة للمعلِّمين الذين يعانون بشدة من انخفاض قيمة رواتبهم. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من إعادة التفكير في نظام التعليم اللبنانيّ وتنفيذ إصلاح هذا القطاع وتطويره على المستويات شتّى.

 

ختامًا، يبقى الشباب اللبنانيّ أعظم ثروة للبلاد، والسبب الذي يجعلنا متفائلين على الرغم من الصعوبات الحاليّة. لكنّ الظروف تخذله، فمنذ سنوات، لم يعد الشعب اللبنانيّ قادرًا على العيش بسلام وأمن وازدهار بسبب الأزمات التي تجتاحه وتدمّر كلّ شيء في طريقها… باستثناء الأمل بغدٍ أفضل. لذلك، علينا جميعًا أن نتكافل ونحمي الجيل القادم في مواجهة خطر فقدانه «نعمة» التعلّم، ولن يكون ذلك على حِساب سنده الأوّل، أيّ المعلّم، ولن يكون أيضًا مجرّد عمليّة «حِساب» تصبح فيها المؤسَّسة التعليميّة مجرّد مشروع تجاريّ تُحسب فيها صافي الأرباح والخسائر في نهاية العام.