IMLebanon

حول سقوف المصروف الانتخابي وصحة الانتخابات!

 

 

«فقل لِمن يدّعي في العلم فلسفة
حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء»

(أبو نؤاس)

في دولة يختلط فيه العام بالخاص، ويعتبر المتسلّط في السلطة أنّ المال العام والمؤسسات العامة هي ملك خاص له، وَرثه عن والد أو عم أو أخ، او مجرد مال مشاع يمكن سَبيه أو الاستيلاء عليه، يصبح من المستحيل وضع معايير شفافة للمحاسبة في شأن الإنفاق الانتخابي. ليس لأنّ الأمر مستحيل أن يحصل، بل لأن القابض على السلطة في النهاية هو من يقرر الاستنسابية في قبول الطعون أو رفضها، وإن حصل طعن فما يستتبعه من إجراءات تخضع هي أيضًا لمن يملك القرار في السلطة.

 

سياسة وضع اليد على ما هو ملك عام هي نهج مشترك بين المشاركين في السلطة، والتشبيح هذا لا ينحصر في موقع واحد أو زعيم واحد أو حزب واحد، وبالتأكيد ولا بطائفة واحدة. فعَدا عن تسخير وظائف الدولة ومشاريعها ومقدراتها والمساعدات التي تأتيها عبر دول أو منظمات إنسانية، تبقى المؤسسات الأمنية بكافة أشكالها جزءًا من حفلة التشبيح، فتتحوّل إلى أدوات للقمع أو تركيب الملفات أو حماية المخالفات في البناء والتعديات على الأملاك الخاصة والعامة والتهريب والمخدرات وسرقة السيارات… طالما أنّ كل ذلك يخدم زعامة الزعيم.

من هنا، فإن الحديث عن صحة الانتخابات ونزاهتها يجب أن لا ينحصر بفترات الحملات الانتخابية، بل يجب أن يشمل كل فترة وجود المرشح في السلطة، عندها فقط نفهم أنّ الانفاق في الانتخابات لدى المتسلّط يفوق في الواقع آلاف المرات ما هو مسموح به قانونيًا ومحصور فقط في فترة الحملات الانتخابية. لكن ما في اليد حيلة، فالمرض المستوطِن يصبح عادة حالة طبيعية لا تحتاج إلى علاج، لا بل انّ من هم أصحّاء أو محصّنون من هذا المرض يصبحون هم الحالة الشاذة التي يجب استبعادها أو التخلص منها وعلاجها، حتى لا تعكر صفو المسار اليومي العادي للحياة. ولو راجَعنا سجلات السلطة في بلدنا، منذ نشأته، لتأكدنا أنّ تلك الحالات النادرة من المعصومين، إن مَنّ علينا الزمان ووصلت إلى موقع ما في السلطة، فقد كانت تُحاصر ويضيّق عليها ويتم تخريب محاولاتها للإنجاز، حتى يتم إحراجها ومن ثم إخراجها، وأحيانًا يتم ترويض جموحها نحو الحق بالترهيب أو الترغيب، أو الإثنين معًا.

 

هي مغارة علي بابا ومعه شذّاذ الآفاق من كل حدب وصوب، فإن كانت الرواية عن أربعين حرامي، فعندنا مشهدية تشبه دولة المطلوبين في أيام عزها في طرابلس عام 1974، يوم كانت نسخة مصغّرة عن واقع السلطة، فتمكّن أهل المدينة من التعايش معها، كحالة عادية، لأكثر من نصف عام، إلى أن توافقَ نزلاء المغارة الكبرى على إزالة المغارة الصغرى. لم تلبث بعدها أن حلّت علينا لعنة الحرب الأهلية كنتيجة طبيعية للمرض المستعصي. لكننا، رغم كل ذلك، عدنا وتمكنّا من التعايش لخمسة عشر عاما مع زعماء العصابات المسلحة وساديتهم الفاقعة، وهنا أيضًا اعتبرنا أنها حالة طبيعية. حتى جيشنا يومها تحوّل أداة في يد أحد زعماء العصابات الذي ادّعى أنه يملك الشرعية وحده من دون سواه. فمَن ادّعى الشرعية يومها في قصر الشعب، حوّل الجيش أداة لخدمة طموحاته المرضية، التي تأكدت لاحقًا في جهنمنا اليوم.

 

هذا النهج بقي ساريًا حتى بعدما طحنتنا الحروب، وبعد أن تفاهم زعماء العصابات على تقاسم السلطة، بدل تقسيم البلد والمدن والشوارع وتحويلها دشماً وسواتر ترابية. فوجدوا منطقياً أن الربح مضاعف في السلم، فانتقلت مواقع قيادة الميليشيات المسلحة بكراسيها الحديد وطاولاتها المنخورة بالصدأ وآثار السجائر والأرضية الملوثة بدماء الضحايا، إلى مكاتب السلطة الفخمة في القصور المرصوفة بالرخام اللمّاع، والمزينة بصور أمراء الحرب المرسومة بريشة الفنانين، والمفروشة بأثاث مستورد خصيصًا من إيطاليا أو فرنسا! فذوق زعيم العصابة تحول من سندويش المرتديلا أو الكورن بيف، إلى الكافيار المستورد خصيصًا من بحر قزوين، وبدل سيجارة «بافرا» المصنوعة في لبنان، صار يدخن سيكار «الكوهيبا» المستورد مباشرة من كوبا!

 

هذا النهج هو اليوم في تحالف منطقي مع مَن هم من طبيعة واحدة، أي الميليشيات المسلحة بألف عقدة وعقدة، من مذهبية وطائفية وجوع عتيق للسلطة والمال، خدمة للمشاريع العابرة للحدود، يومًا كأدوات لعقيدة أسطورية، وآخر فقط من أجل السلطة والمال!

 

عدا المصروف الانتخابي، فالبحث في صحة الانتخابات يجب أن يتدخل في كل ما سبق، وأن يتدخل في التكليف الشرعي الذي يفسدها، كما الهيمنة على الإعلام والمنابر واستخدام الإرهاب الاجتماعي لسحب المرشحين. والهيمنة الإعلامية تتمثل أيضًا في الشاشات الخاصة المفتوحة للبروباغندا الإعلامية، مدفوعة كانت أم حزبية، والمواكبات الأمنية الفائضة والمهرجانات الطنّانة الرنّانة المليئة بالمؤثرات الفنية والسمعية البصرية ومئات اللوحات الإعلانية.

 

يبقى أن نسأل من يفعل كل ما سبق: من أين لك هذا؟