IMLebanon

قبل أن يقبض “حزب الله” مجدداً على رقبة الدولة

 

 

بتكليف من الله، يهدد بضرب منصات النفط والغاز. يجتاح دمشق وأريافها وبيوتها وأزقتها. يساوي حمص وحلب وإدلب بالأرض. يقاتل في صنعاء وفي بغداد وفي غالبية عواصم وحواضر العرب. يؤسس خلية العبدلي في الكويت، ومثيلاتها في كل بقاع الأرض، من سرايا المقاومة في سعدنايل إلى الشبكات النائمة في بيونس أيرس وأقاصي أوروبا وصولاً إلى كندا. يفعل هذا كله بتكليف من الله. ثم يتباكى على حصار ظالم يستهدف تركيع لبنان وتجويع شعبه وكسر مقاومته.

 

ما زال الزمان يأتينا بكل عجيب. حتى إذا ما استنفد الرجل حجته وبرهانه ومنطقه، قال إنما أفعل كذا بتكليف من الله. وكان هذا الرجل نفسه قد أخبرنا ذات مساء من ربيع الثورة في سوريا، أن تدخله يقتصر فقط على حماية المراقد المقدسة، وهذا بطبيعة الحال تكليف من الله أيضاً، ليعود ويكشف نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف أن الأمين العام لـ”حزب الله” قال له بالحرف: إن تدخلنا العسكري المباشر جاء لمنع المعارضين من اسقاط دمشق.

 

في موازاة هذا التكليف الإلهي العابر للجغرافيا والخرائط والحدود والهويات والعقل والمنطق، ثمة من يُناور في توصيف المشكلة وتفصيلها. بعضهم يجنح إلى عبث سياسي بلا طائل، على سجية أن الجميع يجلسون في كفة واحدة، وكلهم في المسؤولية سواء، فيما يجنح آخرون إلى المهادنة التي تُلامس حدود التسليم أو الخنوع، كأن يقول قائلهم: ما لنا ولـ”حزب الله”. هذا مشروع اقليمي لا قدرة على مقارعته. الأجدى أن نهتم برغيف الخبز وإقرار بعض الإصلاحات في مجلس النواب. متجاهلاً أن الظل لا يُمكن أن يستقيم والعود أعوج.

 

أصل الداء ما عاد خافياً على أحد، وزبدة الوطنية الخالصة تكمن في أن لا تكتم رأياً لتُرضي هذا أو ذاك، بل أن تجاهر بما عرفت وتعرف، وبما لمست وتلمس، لا لشعبوية يستسيغها رواد الشأن العام، ولا لشجاعة مستحقة في موازاة جُبن مرير، بل لبلد نريد أن نبنيه سوياً على اساسات صلبة، وهي الأساسات العميقة التي يكاد أن يجرفها “حزب الله” عن بكرة أبيها.

 

ليس ثمة متسع للدلع أو التدلل. ولا لكلام منمّق أو حمّال أوجه. ولا لرمادية أو وسطية على سجية الشيء ونقيضه. هناك استحقاقات وطنية داهمة. وهناك مجموعة عريضة قبضت على الأكثرية النيابية بوجه “حزب الله” وحلفائه. فماذا هم فاعلون؟

 

سنسلم جدلاً أن الاستحقاقات الأولى كانت داهمة ومباغتة، وأن ترشيح “التقدمي الاشتراكي” لغسان سكاف كان سقطة سياسية لا تستوي مع تجربة الحزب وحنكته وخبرته، لكن ذلك كله استحال الآن ماضياً مضى، وصار لزاماً عليهم جميعاً أن يُخرجوا أنفسهم من عنق الزجاجة، وأن يفكروا بصوت مرتفع، على أساس أن ما يجمعهم هو أكثر بكثير مما يُفرقهم، وأن ما لا يؤخذ كله لا يُترك جُلّه.

 

بدأ سمير جعجع هذا المسار بخطوة كبيرة تُحسب له، حيث فتح الباب على مصراعيه أمام اتفاق المعارضة على مرشح واحد، وبحد ذاته هذا تطور استثنائي، كونه يعني انسحاباً ضمنياً لزعيم أكبر تكتل نيابي وأكبر كتلة مسيحية من اللعبة الرئاسية لصالح التوافق المنشود، وهذا ما يجب أن يُبنى عليه، بعيداً من الشكليات والشعبويات ومن توافه الأمور وصغائرها، ليصار بعدها إلى اتفاق جامع حول مرشح واضح في مواقفه السياسية والاقتصادية، كما في نزاهته ونظافة كفه.

 

نقف الآن على مرمى حجر من انتخاب رئيس جديد قد يستعيد هيبة الدولة وتوازنها وحضورها، لنؤسس بعدها للنهضة المنشودة، وعلى مرمى حجر أيضاً من قبض “حزب الله” مجدداً على رقبة الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها، ما يعني مزيداً من الترهل والانهيار، ومزيداً من التكاليف المجنونة والمنسوبة زوراً إلى الله.