IMLebanon

الإنقاذ لا يبدأ من الرئاسة

 

 

لن تتمكّن المعارضة من انتخاب رئيس للجمهورية يتمتّع بصفتي السيادة والإصلاح، ولكن لو سلّمنا جدلاً بأنها نجحت في انتخاب هذا الرئيس، فلن يستطيع القيام بشيء في حال قرّر الفريق الآخر تعطيله.

 

يُفترض أن يشكّل الشغور الرئاسي، بالنسبة إلى المعارضة، فرصة لحوار ليس حول انتخاب رئيس للجمهورية، إنما حول النظام السياسي القائم، حيث أظهرت تجربة 18 سنة على خروج الجيش السوري من لبنان انّ هذا النظام معطّل ويعطِّل حياة اللبنانيين، ولم تعد أوضاع البلد المالية ولا أوضاع الناس الحياتية تحتمل تأجيل البحث في حلّ هذه الإشكالية البنيوية والجوهرية، خصوصاً انّ الفريق المعطِّل للدستور والانتخابات الرئاسية قدّم المبرِّر الموضوعي لمقاربة ما فوق رئاسية، لأنه لو التزم بالمهلة الدستورية لكان تفادى تهيئة مناخات إثارة جوهر الأزمة اللبنانية المرتبط بازدواجية السلاح من جهة، ودور هذا الفريق الذي يستحيل قيام دولة بالشراكة معه من جهة أخرى.

 

ولو تمّ الافتراض، لضرورات النقاش، انّ المعارضة نجحت في انتخاب رئيس سيادي-إصلاحي، فهل سيتمكّن هذا الرئيس بالتفاهم مع رئيس الحكومة المكلّف من رفض تخصيص الطوائف بحقائب، وان يرفض مثلاً أن تبقى وزارة المالية مع الشيعة وبيد الثنائي الشيعي ووزارة الطاقة مع المسيحيين وبيد “التيار الوطني الحر”؟ وهل سينجح في إقفال المعابر غير الشرعية وضبط المعابر الشرعية ووقف التهريب؟ وهل بإمكانه الشروع في ورشة إصلاحية تبدأ بالكهرباء ولا تنتهي بالاتصالات وما بينهما المرفأ والمطار؟ وهل سيكون قادراً على توفير بيئة حاضنة لاستقلالية القضاء وترشيد القطاع العام؟ وهل سيفرض هيبة الدولة بدءاً من الموظفين، وصولاً إلى جميع اللبنانيين ولا يقبل سوى بمعيار الكفاءة في التعيينات وتطبيق القانون على الجميع؟ وهل سيتصدى لكل ما يُعكِّر علاقات لبنان خارجية ويضبط السياسة الداخلية ويُعلي الدستور في الممارسة ويضع نصب عينيه أولوية الاستقرار والازدهار؟

 

وهذه عيّنة من الخطوات البديهية التي يجب على أي رئيس للجمهورية بالتعاون مع رئيس الحكومة والحكومة فرضها واتباعها، والعيّنة تطول بمعزل عن ازدواجية السلاح التي يستحيل حسمها من دون ظروف خارجية، ولن تنجح أي سلطة تنفيذية لا في مكافحة الفساد ولا في الشروع في الإصلاحات المطلوبة، لأنها ستصطدم عند كل مفترق بالفريق المتحكِّم بالقرار والذي سيلجأ بالحد الأدنى إلى سلاح الفيتو المذهبي والتعطيل على غرار تعطيله انطلاقة الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس ميشال عون رداً على المحقِّق العدلي في انفجار المرفأ طارق البيطار، وبالتالي المشكلة الحقيقية التي تعيق قيام دولة فعلية مزدوجة: مشكلة سلاح يمنع بسط سيادة الدولة وهيبتها ويحول دون العدالة ويُبقي الانقسام بين اللبنانيين عمودياً ويُسيء إلى علاقات البلد الخارجية، ومشكلة الممارسة السياسية لفريق السلاح القائمة على حَدّي التعطيل والفساد.

 

 

ولم تفشل الحكومات المتعاقبة منذ العام 2005 بالصدفة، إنما لكَون الإدارة المتحكمة بالقرار السياسي لا تُتقن فنّ الحكم، والرهان على تحييد هذه الإدارة او ان تُبدِّل في ممارستها، هو رهان واهم وخاطئ وتجربة 18 سنة أكثر من كافية للخروج بقناعة راسخة بأنّ الإنقاذ غير ممكن بواسطة الانتخابات والرقابة البرلمانية وسنّ القوانين والمشاركة بالحكومات، وهذه التجربة تشكّل سلاحاً للقطع مع هذه المرحلة والانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة، خصوصا مع إصرار الفريق المُمانع على رئيس من صفوفه وفي ظل سوء تقدير كبير من قبله للنقمة الشعبية والانهيار المالي، الأمر الذي يجب الاستفادة منه من خلال الإصرار أيضاً على رئيس سيادي وإصلاحي مرفوض من الممانعة، وذلك رفضاً لأي تسوية تُبقي لبنان وسط الانهيار والفشل.

 

ويختلف الشغور الرئاسي هذه المرة عن المرات السابقة في جانبَين أساسيين: الأول يتعلّق بالانهيار غير المسبوق، والثاني يرتبط بوصول الناس إلى قناعة بأنّ هذه الصيغة لم تعد صالحة وحان الوقت للتفكير جدياً بصيغة جديدة تؤمِّن لهم أبسط مقومات شؤونهم الحياتية، وهذا الاختلاف بالشغور يستدعي تحويله إلى فرصة للإنقاذ، فيما انتخاب رئيس للجمهورية يعني تمديداً للأزمة لـ6 سنوات إضافية، ومن مصلحة المعارضة ان يتشدّد فريق الممانعة ويتمسّك بمرشحه بهدف نقل الإشكالية من شغور رئاسي، إلى عُطب جوهري في النظام السياسي يقود إلى مؤتمر أو صيغة أمر واقع.

 

 

والمعارضة محكومة بخيارين فقط لا غير: خيار انتخاب رئيس للجمهورية يرفض اي مساومة، إن في طريقة تأليف الحكومة أو في الخطوات الإصلاحية أو في دور الدولة ومُستعد على مواجهة تقود إلى تعطيل ليقود بدوره إلى إعادة نظر بالنظام، والخيار الثاني رفض اي تسوية رئاسية وتهيئة الظروف السياسية والشعبية لمقاربة تطال جوهر النظام السياسي.

 

والتطور المهمّ هو ان الناس لم تعد تريد النظام الحالي من جهة، وان بعض القوى السياسية عبّرت صراحة من جهة ثانية عن رفضها وصول رئيس مُمانع، ورفضها اي تسوية مع الفريق الممانع، وإصرارها على ممارسة سياسية لا قيود أمامها سوى الدستور والقانون، لأنّ المطروح اليوم إمّا التمديد للوضع القائم من خلال انتخابات رئاسية لن تقدِّم ولن تؤخِّر، وهذه جريمة وخطيئة بحق الشعب اللبناني الذي اكتوى بنار الأزمة، وإمّا استخدام الشغور الرئاسي كوسيلة للبحث جدياً في أسس التركيبة الحالية.

 

ولن تجد المعارضة أفضل من الظرف الذي انزلقت إليه البلاد، ليس بسبب مؤامرة كونية او إمبريالية، إنما بسبب الممارسة الكارثية للممانعة التي حققت ثلاثة أهداف في مرماها، اي ضد مصلحتها: انهيار تتحمّل مسؤوليته، عجز عن الخروج من الانهيار، وقناعة شعبية بالفصل عن الممانعة. وهذا الظرف لن يتكرّر، خصوصا في حال انتخاب رئيس تمنح الناس معه فترة سماح، فيما يفترض ان تكون القوى المناوئة للممانعة وصلت إلى قناعة بأنّ البلد لا يحكم بالشراكة مع هذا الفريق التي جُرِّبت ونتائجه معروفة.

 

 

فالعطب الجوهري يرتبط بأسس النظام الحالي منذ ان تم الانقلاب عليه مع العصا السورية في العام 1990، والرهان على تغييره من داخله وَهم كبير، والخيارات أصبحت معروفة: إمّا استمرار المراوحة الحالية إلى ما شاء الله من دون سيادة ولا دولة ولا استقرار ولا إصلاحات، ما يعني استمرار الهجرة حتى تغيير وجه لبنان ونجاح الممانعة بوضع يدها كاملة على البلد بفِعل التبدلات الديموغرافية، وإما القطع مع هذه الممارسة التي بدأت مع النظام السوري منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وتواصلت مع “حزب الله” منذ العام 2005، وتجربة 33 سنة أكثر من كافية باستحالة قيام دولة في لبنان مع هذا الفريق.

 

والخلاصة الأساسية التي على معظم اللبنانيين استخلاصها انّ أزماتهم السيادية والدولتية والمالية لا يمكن حلّها بانتخاب رئيس للجمهورية، وانه مهما كانت نوعية هذا الرئيس وتصميمه على الإصلاح، فإنه سيصطدم بماكنة تعطيل تمنعه من تحقيق اي خطوة، وفي حال أصرّ على خطواته تعمل على مقاطعته وشَل الحكومة وتعطيل كل شيء. وبالتالي “فالج ما تعالج”، فطريق الإنقاذ الفعلي والحقيقي لا يبدأ من انتخاب رئيس الجمهورية، إنما يتحقّق من خلال فكّ الشراكة مع الفريق الحاكم انطلاقاً من قناعة بأن لا دولة ولا بلد ولا استقرار مع هذا الفريق، وان الخلاص يبدأ من كَفّ يد هذا الفريق، وبمعزل عن كيفية ترجمة هذا الانفصال بأشكاله الدستورية، لأن الشكل الدستوري هو مجرّد تفصيل، فيما الأساس يكمن في قيام دولة طبيعية تعيش الناس في ظلها في أمن وسلام واستقرار، الأمر الذي يعدّ ممكناً مع تركيبة 13 تشرين 1990 وتتمّتِها في 8 آذار 2005.