IMLebanon

التكليف مفتاح المرحلة الجديدة

 

 

أسقطت الانتخابات النيابية النظرية التي سادت طويلاً والقائلة ان الانتخابات لا تقدِّم وطنياً ولا تؤخِّر سياسياً ولا تبدِّل نيابياً في ميزان القوى داخل المجلس النيابي، والجميع يتذكّر مقولات انّ أقصى ما يمكن ان تخرج به الانتخابات نواباً عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

برهنت الانتخابات النيابية بالفعل انّ الناس قادرون على صناعة التغيير، ولو أنهم وثقوا بهذه القدرة وصَوتّت بالكثافة المطلوبة لكان التغيير حقّق أرقاماً مضاعفة، ولكن هناك مَن عمل دوماً على تيئيسهم وإحباطهم بمقولة ان اقتراعهم من عدمه لن يبدِّل في خريطة مجلس النواب، فيما أثبتت الانتخابات خلاف ذلك تماماً، والاختراق تحقّق في دوائر كان الانطباع عنها انها قلاع مقفلة أمام اي خرق، ولكن تبيّن ان هذا الخرق سهل جدا في حال اقترع الناس ووحّدت القوى المعنية صفوفها.

 

ولا شك في ان هذه الانتخابات أعطت دفعاً للناس وجعلتهم يثقون بقدرتهم على التغيير وستجعلهم يشاركون في الانتخابات المقبلة بلا تردُّد، وإذا كان يفترض بالجميع التوقّف طويلا أمام نسبة اللبنانيين الكبيرة التي اقترعت للوائح التغيير، فإن الكتلة التي نجحت من هذه الفئة مسؤوليتها مضاعفة أمام الناس بتقديم ممارسة مختلفة كما وعدت في ساحات انتفاضة 17 تشرين، لأنّ التجربة النقابية التي قدمتها كانت أكثر من عادية، وبالتالي الأنظار مركّزة على هذه الكتلة التي عليها ان تُزاوج بين خروجها من الساحات إلى داخل مجلس النواب، وبين ان تترجم تمايزها بأداء نوعي لا بالمزايدات السياسية.

 

ولا شك أيضا في انّ نتيجة الانتخابات في كل البيئات اللبنانية ستخضع لدراسات معمقة من أجل الخروج بخلاصات واضحة تتعلق بحركة المجتمع ومزاج الجماعات والأفراد، وفي موازاة بروز أكثرية جديدة فإنّ العناصر الجديدة التي برزت في هذه الانتخابات تكمن في الآتي:

 

ـ العنصر الأول، حيوية لافتة للشخصيات غير الحزبية والتي تصنِّف نفسها في خانة المجتمع المدني التغييري، وهذا الجسم لم ينجح في تحقيق الاختراقات المطلوبة في الانتخابات السابقة على رغم من انّ الحراك بدأ منذ العام 2014، ما يعني ان الفوز الذي حقّقه مردّه إلى انتفاضة 17 تشرين، وقد نجح في ان يجلس في الصفوف الأمامية وان يتحوّل لاعبا سياسيا جديدا في المشهد السياسي اللبناني.

 

– العنصر الثاني، تبدُّل واضح في المزاج المسيحي لمصلحة «القوات اللبنانية» على حساب «التيار الوطني الحر» الذي تراجع بأرقامه التفضيلية بنسبة كبيرة مقارنة مع الانتخابات النيابية وتقدُّم «القوات» عليه بنسبة غير قليلة، ما يعني انّ الأكثرية المسيحية التي احتفظ بها التيار منذ العام 2005 خسرها قبل أشهر من نهاية عهد رئيسه في 31 تشرين الأول 2022.

 

وإن دَلّ هذا التطور على شيء، فعلى ان المزاج المسيحي يشكل جزءا لا يتجزأ من المزاج اللبناني، إذ بمقدار ما تراجَع المزاج المتعاطف مع «حزب الله» لبنانياً، تراجع هذا المزاج مسيحيا، ومؤشرات هذا التطور بدأت مع حوادث خلدة وشويا وعين الرمانة، وجاءت الانتخابات لتكرِّسها.

 

ـ العنصر الثالث، جرأة شيعية غير مسبوقة في مواجهة «الثنائي الشيعي» عموما و»حزب الله» خصوصا، ولم تقتصر هذه الجرأة، خلافاً للمرات السابقة، على تسجيل موقف سياسي، إنما تَعدّته إلى الإصرار على الترشيح وخوض مواجهة انتخابية وخرق لائحة الثنائي بعدما كان الاعتقاد انّ هذه اللائحة لا تُخرق.

 

ويُدرك «حزب الله» ان الجرأة متى نجحت في تحقيق خرق معيّن تتحول دينامية توسعية وتمدّدية، خصوصا ان شريحة واسعة في هذه الدوائر كانت تشكِّك في القدرة على الخرق، وبالتالي ما تحقّق سيفتح الباب أمام عمل تراكمي وصولاً إلى كسر احتكار الثنائي للتمثيل الشيعي.

 

ـ العنصر الرابع، خسارة خط 8 آذار داخل الموحدين الدروز، حيث حافظ «الحزب التقدمي الاشتراكي» على وزنه وحجمه، فيما خرج الخط الآخر من المعادلة النيابية وهذه المرة ليس على يد «الاشتراكي»، إنما من طريق انتفاضة 17 تشرين، الأمر الذي يُجنِّب الطائفة الاحتقان المعهود كون المواجهة لم تحصل بين الثنائية التاريخية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل من مصلحة «الاشتراكي» إنهاء التقابل التاريخي الجنبلاطي-اليزبكي وغَض النظر عن دخول حالة ثورية كانت البيئة الدرزية سدا منيعا أمام ثورة الفلاحين في العام 1860؟ وهل يمكن ان تشكل هذه الحالة عدوى داخل الطائفة الدرزية يتضرّر منها «الاشتراكي» لاحقاً؟ أم ان مصلحته في تنفيس قواعده بوجوه تغييرية على حساب غيره وفي رسالة إلى الخط الدرزي الآخر انّ وجوده السياسي يمرّ في المختارة؟

 

– العنصر الخامس، فشل «حزب الله» في تحقيق الاختراقات التي كَثُر الحديث عنها داخل البيئة السنية، لا بل تراجع حضوره السني مقارنة مع الانتخابات السابقة، والفضل الأساس في ذلك يعود للدور الكبير الذي تولّاه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان ونجح في سد الفراغ ومنع اختراق الحزب، إن في رسالتَي رمضان والفطر، أو من خلال دعوة الأئمة والمشايخ إلى حَضّ الناس على الانتخاب، أو عبر توفيره الغطاء لكل من يريد ان يترشّح.

 

ولا تقف خسارة «حزب الله» عند حدود خسارته للأكثرية النيابية، إنما تتجاوزها إلى خسارته في كل البيئات الطائفية بدءاً من الطائفة الشيعية، فضلاً عن ان خصومته لم تعد محصورة مع قوى حزبية اعتاد على خصومتها وحدود هذه الخصومة، إنما تطورت أيضا إلى خصومة مع رأي عام مستقلّ نجح في ترجمة انتفاضته بكتلة نيابية، وإذا كان الحزب يَستسهِل تحريض بيئته ضد القوى الحزبية، فإنّ من الصعب عليه التحريض ضد هذا الرأي العام الذي يركِّز اعتراضه على الجوانب المالية والإدارية وكل ما يتصل بالانهيار والفساد.

 

وعلى رغم من انّ الأكثرية الجديدة مؤلفة مبدئياً من خمسة مكونات أساسية: «القوات» و»الاشتراكي» والمعارضة التقليدية والحالة السنية السيادية والتغييرية وكتلة الانتفاضة، إلاّ انه من السهولة على هذه المكونات ان تضع آلية تنسيق بالحدود الدنيا في البداية من أجل توحيد مواقفها في القضايا الأساسية ترجمة لأكثريتها، خصوصاً أن من مصلحتها الاستفادة من ورقة القوة المسمّاة الأكثرية الجديدة بما يخدم هدفها بقيام دولة وتجسيداً لتصويت الناس التي أفرزت هذه الأكثرية باقتراعها للقوى التي تتقاطَع على المشروع والهدف نفسه.

 

وإذا كانت هذه الأكثرية عاجزة عن ترجمة أكثريتها في انتخاب رئيس مجلس النواب في اعتبار ان الثنائي الشيعي أقفل الساحة النيابية الشيعية، فإنّ في إمكانها ان تقدِّم أول اختبار من خلال اتفاقها على انتخاب نائب رئيس مجلس النواب، ولكن الاختبار الأهم يبقى باتفاقها على تكليف رئيس حكومة يتعهّد في حال تكليفه ان يشكِّل حكومة من وزراء اختصاصيين غير حزبيين وغير استفزازيين لأحد، وان يلتزم بثلاثة معايير أساسية: عدم تخصيص حقيبة لأي طائفة، عدم القبول بالثلث المعطِّل، وعدم الموافقة على إبقاء وزارة الطاقة في عهدة العهد.

 

فالمواجهة الدستورية والإصلاحية الفعلية تبدأ مع التكليف، وعنوان هذه المواجهة تطبيق الدستور من أجل إخراج لبنان من أزمته، وبالتالي التحدي الأساس والأبرز أمام الأكثرية الجديدة يَكمن في اتفاقها على هويّة الرئيس المكلّف وخريطة الطريق الدستورية التي على أساسها سيشكل الحكومة.