IMLebanon

عن ضرورة الصمود والمواجهة

 

«قل للمقيم على ذلّه هجينًا يسخّر أو يلجم تقحم لُعنت أزيز الرصاص وجرّب من العيش ما يُقسم فإمّا إلى حيث تبدو الحياة إليك مكرمة تُغنم وإمّا إلى جدث لم يكن ليفضله بيتك المظلم» (محمد مهدي الجواهري)

لطالما سكنَ مخيلتي ذاك المشهد المهيب في مسرحية «جبال الصوان» للرحابنة، عندما وقف «متلج» مدافعًا عن القرية في وجه «فاتك المتسلط» الآتي مع مجموعة من البلطجية للسيطرة على الناس الآمنين. اللافت كان أنّ متلج أيقَن حتمية سقوط القرية في يد «فاتك» عندما دخل الخوف على الناس وقرروا الاستسلام بدل المقاومة. عندها، انسحبت جماعته من أرض المعركة دونه، ورفض الاستسلام وقتل على بوابة قريته. قصة المواجهة مع المتسلط، بقيت تحفر في ذاكرة ووجدان أهل القرية، بين شعور بالقهر والحزن من واقع الوقوع تحت سلطة الظلم، والندم على الاعتكاف والانسحاب، يوم كانت المواجهة السبيل الوحيد لمنع الوقوع تحت ذل الاحتلال.

عندما عادت «غربة»، إبنة متلج، بعد سنوات من مقتل والدها، كانت اسطورة مقاومة متلج للظالم مقدمة لمسار طويل أعاد الفرح والأمل إلى أبناء القرية، ومن ثم أشعل الأمل قدرات الناس على المواجهة والانتصار، فطرد فاتك وجماعته، وقتلت غربة في المواجهة. المهم في حبكة الرواية هو أن المتسلط لم يُعر لغربة أي اهتمام في البداية، طالما أن القرية تتوشح بثياب الحداد. عندما أعادت غربة للناس ثقافة الفرح والنغم والغناء، عندها بدأت المؤامرات لاغتيالها لأن المتسلط لا يأمن إلاّ للخوف والحزن لحكم عبيده.

من هنا بالذات، كان حنق عشاق الحزن والندب على الشيخ الجليل الذي كان يعزف على البيانو بأغنية لفيروز، كذلك ظهر حقدهم أخيرًا على الفرح والأمل في معرض الكتاب في بيروت، عندما انطلقت الموسيقى والنشيد من قلوب الناس، لتطغى على تحويل المعرض إلى مساحة لتقديس الموت والقتل، وتأليه رواد العنف المقدس بنشر الصور العملاقة المحمية بسواعد حزبية.

الخوف من الأمل والفرح هو السبب نفسه الذي رفع مستوى الحقد والخشية من رفيق الحريري منذ اتفاق الطائف الذي أوقفَ سلسلة الموت واليأس في الحرب. رفيق الحريري، «غربة» لبنان، حاول استرجاع النغم والفرح إلى شوارع المدينة وساحات القرى لأنه أيقنَ، كما الرحابنة، بأن الفرح هو المقاومة الحقيقية في مواجهة الترهيب، وأن حب الحياة الحرة الآملة هو الظافر على الدعوة الغبية للموت فداءً لعنجهية واستكبار المتربعين على المنابر، الذين يطربون فقط لهتافات الشباب المُغَرّر به بعبادة المغرور المغامر، لا بل المقامر بأرواح الناس وأرزاقهم.

لكن الإشكال يصبح مضاعفًا عندما يستنكف أنصار الحياة والفرح ويستقيلون أو يتجاهلون واجب الدفاع عن قضيتهم. فلو كان أنصار الفرح حاضرين في معرض بيروت للكتاب، بثقافتهم وكتبهم وموسيقاهم، لكانوا جعلوا من ثقافة الموت مجرد وعاء علقم سام، صُبّ في مجرى نهر يشرب أبناؤهم منه، قد يشعر بطعمه وسمّه من كان قريبًا، قبل أن يختفي ويضمحل كلياً في مسار النهر الذي لا يأبه به.

يقول دانتي في «الكوميديا الإلهية» في قسم «الجحيم» ان «أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمن يتخذون موقف الحياد في القضايا ذات الطابع الأخلاقي». يعني أن الحياد والاستقالة لا يعفيان ذوي الألباب العارفين والمسؤولين من الحساب الأخلاقي. كما أن هذه المسؤولية تصبح مضاعفة على عاتق المسؤولين عن إدارة شؤون الناس، كالربّان الذي يبقى ليدير الكارثة في السفينة، إلى أن يخرج آخر راكب من المركب المعطوب.

منذ بضعة أيام، أصدرت غرفة الاستئناف في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قرار إدانة اثنين آخرين من مجموعة من أعداء الفرح وجلادي الحياة، الذين نفذوا جريمة الرابع عشر من شباط. عندما سُئِلت عن رأيي بهذا الأمر، أكّدت أن ذلك حدث هامشي في مسار العدالة لأنه يُطاوِل فقط أداة التنفيذ الفاقدة للإرادة، حتى وإن أرادت، فالعدالة تبقى من دون معنى إن لم تطل المنظومة التي تدير القتل والدمار، وهي التي اتهمت بإصدار الفتوى باغتيال رفيق الحريري مع العشرات من اللبنانيين، ومن ثم اغتالت البلد بأجمعه بفتوى شرعية عقائدية.

بلمحة خاطفة وموضوعية على بلدان العرب حيث حلت لعنة ميليشيات طائفية ونواب في برلمان، رأينا كيف حل الحزن الدائم والموت المستدام بدل الفرح والحياة. ولو فرضنا أن هذا الأمر أمنية صهيونية، فمن نفّذها هم ذاتهم الذين يدّعون مقاومة إسرائيل والاستكبار العالمي. يعني أن من يستكبر علينا اليوم، نحن اللبنانيين، من وراء الشاشات العملاقة، هو أيضًا أداة تنفيذية في يد من سعى، منذ مؤتمر بازل الصهيوني، إلى تقسيم عالمنا إلى مِلل تشبهه، تصبح رديفة له حتى عند إظهار العداء له بالخطابات العنترية، من وراء الشاشات وعلى المنابر، في وقت تسحق البراميل المتفجرة وتخنق الغازات السامة الآباء والأبناء، وهم الأمل الوحيد بالمواجهة الحقيقية.

من أجل كل هذا، وبسبب كل ذلك، علينا المواجهة لمنع زحف عقلية التتار للاستيلاء على مدنيتنا من خلال صناديق الاقتراع، ومن ثم جعلهم ثقافة الموت والندب والحزن فرضًا علينا.