IMLebanon

لا يمين ولا يسار هي ثورة مهندسين

 

“اليمين واليسار، اختلط الحابل بالنابل”. كان هذا عنوان فصل من كتيب نشرته بمناسبة انعقاد مؤتمر حركة اليسار الديموقراطي في خريف 2004. لم يكن ذلك رداً على الانشقاق فحسب، بل استنتاجاً من واقع انخراط القوات السورية في الهجوم “الإمبريالي” على العراق، وانخراط اليسار الأوروبي في الهجوم الأميركي على يوغسلافيا. حصل ذلك بعد أن انهار الاتحاد السوفياتي ومعه كل المعادلات السياسية وعلى رأسها الثنائية القطبية وكل منظومة القيم النضالية، إلا في رؤوس المتشددين من الشيوعيين.

 

مثل هذا الكلام قد لا يرضي اليساريين الذين شاركوا بفعالية في إلحاق الهزيمة بأحزاب السلطة في انتخابات نقابة المهندسين. الحق يقال، ما كان ممكناً إحراز هذا الانتصار الكبير من دونهم. لكن يساريي النقابة لا يمثلون يسار الحقبة السوفياتية، كما أن الحزب الشيوعي خلال التحضير للانتخابات لم يكن هو ذاته ما قبل ذلك.

 

الكلام ذاته يقال عن الخاسرين. هل نحسب “الحزب الاشتراكي” يميناً لكونه وقف على الحياد، أم نعد من اليسار “حزب الكتائب” الذي انخرط بلا طبل ولا زمر ولم يهلل للانتصار الذي ما كان يمكن أن يحصل لولاه؟ وأين نصنف من سبق له أن انخرط في نضالات الثورة ثم وقف ضد مرشح النقابة تنتفض؟ وفي أية خانة نضع القواتيين والاشتراكيين الذين صوتوا لصالح مرشح الثورة؟ حقاً اختلط الحابل بالنابل، إلا في عقول، على اليمين كما على اليسار، ما زالت تغرف من ثقافة الحرب الأهلية.

 

يستحيل فهم الاصطفافات الجديدة بمعزل عن الدور المحوري الذي لعبته الثورة في خلط الأوراق. الثورة هي المنصة التي تبلور عليها انتقال “الكتائب” من ثلاثية الله والوطن والعائلة إلى شعارات الدولة والوحدة الوطنية. وهي التي ساعدت “الحزب الشيوعي” على الخروج من أحضان جبهة الممانعة والانخراط بوضوح في مواجهة أحزابها.

 

في التلاقي أو في التنافر تلعب الكيمياء دورها السحري. يستحيل أن تتفاعل بعض المواد الكيماوية من غير حافز أو مساعد أو وسيط (كاتالايزر). الثورة هي الحافز الذي خلط حابل اليسار بنابل اليمين وصنع خلطة سحرية وانتصاراً ساحقاً على الخلطة القديمة التي صنعها النظام الأمني.

 

قال لي أبو طارق أحد مسؤولي الصاعقة خلال الحرب الأهلية، ان الجيش السوري لن يخرج من لبنان قبل أن يجمع الجبهة اللبنانية إلى الحركة الوطنية في إطار سياسي واحد. وعد النظام السوري ووفى، فكان الكاتالايزر الذي وضع في الحكومات المتعاقبة، اليمين المسيحي واليسار المسلم، بحسب التسمية التي أطلقتها إذاعة لندن وصدقها المحاربون اللبنانيون وصادقوا عليها، فطبق الطائف بما يتوافق مع خلطة مبتكرة اسمها الممانعة، شعاراتها يسارية وممارستها يمينية، تقدم نفسها مدافعاً قوياً عن القضية الفلسطينية، وتخوض حرباً ضد المخيمات في صيدا وبيروت، لا تقل ضراوة عن حرب تل الزعتر.

 

الشعارات آلهة من تمر تأكلها الممانعة حين تجوع. كلام يساري عن مواجهة مع الإمبريالية وحوار ودود تحت الطاولة بحثاً عن تسويات وقودها الشعوب والحريات. كلام قومي عن مواجهات مع الصهيونية، ولا رصاصة واحدة لتحرير الجولان، وفي لبنان رصاصات على كل مقاومة لا تمتثل وبحث عن مساومات مع العدو.

 

في هذا الخليط الممانع صار مستحيلاً التمييز بين يمين ويسار. لم يعد المعيار اقتصادياً لتكون مع الرأسمالية أو ضدها. معيار نظام الوصاية هو أن تكون ممانعاً أو لا تكون، حيث لا اليسار يساراً ولا اليمين يميناً. هذا هو بالضبط ما كانه “الحزب الشيوعي”. قتلت الممانعة هواه اليساري واغتالت مناضليه وظل مصراً على البقاء حليفاً لقاتليه ومدافعاً عنهم.

 

في انتخابات نقابة المهندسين معيار آخر وعامل جديد لم تعرفه الحياة السياسية اللبنانية طيلة مرحلة نفوذ الممانعة أي منذ بداية الحرب الأهلية. إنه ثورة 17 تشرين. أن يشن القواتي هجوماً على الشيوعية بنسختها القديمة، هذا يعني أنه لم يغادر هو الآخر نسخته القديمة. يسار ما قبل الثورة كما يمينها ليسا كما بعدها. قبلها عقل الحرب الأهلية والانقسامات السياسية الموصولة بالثنائية القطبية ومعسكري وارسو والأطلسي. كلها زالت أو تحولت أو تحوّرت إلا لدى الذين يحنون إلى شبابهم الميليشيوي.

 

إنخرط في الثورة خريجون من جميع الأحزاب. صنعت الثورة منهم حزباً من طراز جديد، حزباً يؤمن بالديموقراطية التي تجافيها جميع الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والإسلامية. الحزبيون تبدلوا وتطوروا أما أحزابهم فهي على قلق كأن الريح تحتها، والريح ليست سوى الديموقراطية في انتخابات نقابة المهندسين.. كل الأحزاب ارتبكت بتصريحاتها وسلوكها، وتظاهرت بعزوفها عن خوض المعركة أو تباهت بانتصار حققه المحازبون لا الأحزاب. حزب وحيد بدأت قيادته الخروج من القلق منذ ما قبل الثورة، هو “حزب الكتائب”.

 

نعم. الثورة لم تولد من فراغ. هي بنت انتفاضات العلمانيين، وفي القلب منهم اليسار الشيوعي أو انتفاضة 14 آذارعلى نظام الوصاية وفي القلب منها “حزب القوات”، أو انتفاضة وليد جنبلاط على الوجود السوري بمصالحة الجبل ضد حرب الجبل الأهلية وضد كل حروب الآخرين على أرضنا. انتفاضات كان يختلط فيها حابل اليسار بنابل اليمين، وكان ينقصها وضوحٌ لم يتوفر إلا في ثورة 17 تشرين.

 

هذا الوضوح قوامه خروج حاسم من منطق الحرب، وتأكيد على التنوع، وتمسك بالوحدة الوطنية. قوامه وضع كل المشاريع الفئوية جانباً، لا الوطن القومي المسيحي ومشتقاته من الفدرالية والكونفدرالية، ولا الإسلام هو الحل، ولا الاشتراكية هي الحل، ولا الوحدة العربية هي الحل. قوامه أن طريق تحرير فلسطين لا تمر في جونية ولا في حمص أو بغداد أو صنعاء. قوامه الحل بالدولة ومؤسساتها الدستورية.

 

الأحزاب التي ما زالت “على قلق” تضع “رِجْلاً في البور ورِجْلاً في الفلاحة”. لا شك في أن من تخرجوا من صفوف اليسار كانوا في صلب معركة المهندسين، ولا شك في أنهم شكلوا حافزاً لتنظيمهم الحزبي الذي تحدروا منه كي ينخرط في المعركة، تكفيراً عن قرار قديم قضى بفصل خمسة وعشرين مهندساً لم يمتثلوا لقرار التخلي عن نقابتهم، وبفصل الآلاف ممن لم يمتثلوا لقرار انخراطه في جبهة الممانعة ودفاعه المستميت عن حلفاء لدودين. جبهة الممانعة طردته من النقابات ومن اتحاد الكتاب اللبنانيين ومن المقاومة الوطنية ضد الاحتلال، ومع ذلك ظلت قيادته تنطق باسم نظام الممانعة تعادي من يعاديه وتصادق من يصادقه.

 

لعل معركة النقابة تعيد “الحزب الشيوعي” إلى موقعه الطبيعي في معارضة نظام الفساد والإفساد ليستأنف عملية التجديد التي لا بد منها لبناء يسار جديد، لأن اليسار حاجة لبناء الأوطان. ولعلها تعيد “القوات” إلى حيث بدأت تقرأ تجربة الحرب بعين نقدية، ولعلها تعيد إلى قلب العمل اليساري “الحزب الاشتراكي” بالمضمون الإنساني والديموقراطي الذي تأسس عليه بقيادة كمال جنبلاط.

 

بانتظار خروجها من كهوف الطائفية والمذهبية والإيديولوجية، على الأحزاب التي تدعي انتماءها إلى وطن نحتفل هذا العام بمئويته إسمه لبنان، لا إلى مزارع موزعة على فدراليات الطوائف ولا إلى ولايات ملحقة بأمة إسلامية أو عربية، أن تنخرط في الثورة وتنهل من معين برنامجها لتستكمل خروجها من عقل الحرب الأهلية وتضع نفسها على السكة الصحيحة لإعادة بناء وطن السيادة والحرية.