IMLebanon

دروس تطبيقية في مواجهة الأزمات يقودها المايسترو اللبناني

 

 

“التجربة اللبنانية” تجتاح أوروبا

 

…وأخيراً صرنا والأوروبيين حالاً واحدة رغم أنف كل من أراد لنا الاتجاه شرقاً. لا بل صرنا قادرين على مقارعة هؤلاء وحتى التفوق عليهم وإعطائهم دروساً تطبيقية في استنباط الحلول لما يواجهونه من أزمات. لقد باتت «التجربة اللبنانية» البراغماتية تجربة رائدة يمكن تعميمها على بلدان أوروبا المأزومة لتمرير هذه الفترة الصعبة من تاريخها. وصارت القارة العجوز تتطلع الى البلد العاجز لتستمد منه خبرته وفكره الخلّاق في مواجهة الصعوبات.

توأمة مستجدة بين لبنان وأوروبا فرضتها رحلة مشتركة الى الجحيم ولو أن القارة العجوز لا تزال على عتبته فيما لبنان قد وصل الى طبقته الدنيا. مرتبة متقدمة تخوله إسداء النصح لدول وجدت نفسها دون سابق إنذار غارقة في أزمات كهرباء وغاز ووقود وغلاء وفقر، تحاول مواجهتها بطرق علمية متحضرة فيما المايسترو اللبناني ابتكر لها حلولاً على طريقته وتخطاها.

 

Déjà Vu

 

لا شك أن أوروبا تواجه صعوبات جمة والأدلة على ذلك كثيرة. إحدى الصديقات العائدات مؤخراً من باريس جلست تروي بما يشبه القرف مما عانته في مدينة الأنوار وما سمعته عن باقي المدن الفرنسية». سرقات، عمليات نشل في الطرقات واعتداءات وتكسير وفوضى امام المحطات كأننا في لبنان… «وتصر على أن التجول في الشوارع الباريسية وفي المدن الكبرى لم يعد آمناً كما في السابق». حتى ارتداء الملابس المكشوفة، تقول الصديقة، «صار محرجاً مع وجود أعداد كبيرة من المتدينين المسلمين الذي ينظرون باحتقار الى السافرات…». وجهة نظر لا يتبناها الكثير من الفرنسيين أو المقيمين في فرنسا لكن لا يمكن إنكار التباين الحاصل في المجتمع الفرنسي أقله بين العلمانيين والمتشددين…

 

وتروي السيدة العائدة كيف عاشت مرة جديدة أزمة البنزين وإغلاق محطات الوقود في مختلف أنحاء فرنسا نتيجة إضرابات شركات الغاز الكبرى، في مشهد يكاد يكون نسخة طبق الأصل عما عاشه لبنان صيف 2021. وكيف أن الآلاف قد شاركوا في مسيرة بشوارع العاصمة الفرنسية باريس الأحد الماضي، احتجاجاً على ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. ويروي لبنانيون آخرون يعيشون في باريس ضاحكين (شامتين) أن ظاهرة جديدة بدأت تطل برأسها، هي «سرقة الوقود» في مشهد déjà vu عرفه لبنان الصيف الماضي قبل أن يكمل طريقه نحو البنزين المليوني.

 

حال اللاجئين أفضل

 

صديقة أخرى هولندية الهوية تسأل عن الأحوال في لبنان هي التي زارته أيام الحرب الأهلية وتعرفت الى واقعه الطائفي والاجتماعي. حين شرحت لها باختصار ما يمرّ به من أزمات كان ردها: الحال في هولندا ليس أفضل من لبنان! هي تلعن الحكومة التي لم تعد تهتم بشعبها بقدر اهتمامها باللاجئين، «هم يؤمّنون المنازل لهؤلاء ويتركون الشباب المقبلين على الزواج غير قادرين على شراء منزل. غلاء الطاقة والمواصلات والسلع لم يعد مقبولاً، الأسعار ارتفعت أكثر من 30% والبيوت والمرافق العامة تعاني من أزمة كهرباء، ووسائل الإعلام تتسابق في نشر التوصيات حول طرق توفير الطاقة. وتتساءل السيدة كيف يمكن للمواطنين تحمل هكذا كلفة؟».

 

في بريطانيا الحال ليس افضل والأخبار التي ترد من هناك كأنها من طرابلس أو عكار. أطفال يذهبون الى المدرسة بلا طعام، يسرقون طعام بعضهم حين يداهمهم الجوع. مواطنون بريطانيون يقفون بالصف للحصول على مساعدات غذائية. مبيع المنتجات الغذائية المجلدة ارتفع ثلاثة أضعاف كونها أقل سعراً من المنتجات الطازجة او المبردة التي كان البريطانيون يستهلكونها… صحيفة الغارديان ذكرت أن اكثر من مليوني عائلة بريطانية متخلفة عن تسديد فاتورة الكهرباء… «نحن السابقون وأنتم اللاحقون…»، هذا كان تعليق الوزير وئام وهاب…

 

تصاعد الخطاب الديني

 

حال بلجيكا هي الأخرى من حال لبنان فهناك يواجهون صعوبات وتعقيدات كثيرة في العيش المشترك. فالمسلمون في بلجيكا بات عددهم يتراوح بين 500 و700 ألف شخص من أصل 11 مليوناً ونصف المليون، سكان العاصمة بروكسل مسلمون وأغلبهم من المغرب. ورغم كون الدولة البلجيكية تعترف بعيدي الفطر والأضحى كعيدين رسميين وتعترف رسمياً بالمساجد وتتكفل بجزء من نفقاتها، إلا أن هذا الاعتراف الرسمي يقابله تصاعد للخطاب الديني وخطاب الكراهية بين الفئتين وصعوبات في التعايش بين المجموعات الدينية، وفق ما رواه لنا أحد اللبنانيين المقيمين في بلجيكا.

 

في ألمانيا تأخذ الأزمة بعداً آخر يشبه ما وصلت إليه إدارات لبنان الرسمية مؤخراً. لا تدفئة في الممرات والمناطق العامة في الإدارات الرسمية، ولا ماء ساخناً لغسل اليدين والحد الأقصى لحرارة أجهزة التدفئة فيها سيكون 19 درجة، وتنخفض الى 12 في الأماكن التي يؤدي فيها الموظفون عملاً بدنياً مكثفاً. أغنى بلدان أوروبا ذهبت الى الطلب من مواطنيها استخدام الأدوات اليدوية بدل الكهربائية وتخفيف الاستحمام قدر الإمكان…

 

«ستاج» في لبنان

 

تجاه هذه الحال المأسوية في أوروبا بات يمكن للبناني أن يتباهى بأعلى صوته «أعطونا الأزمات وخذوا منا ما يدهش العالم»، لا بل خذوا دروساً تطبيقية في التحايل على الأزمات واستنباط الحلول الدونكيشوتية لها. «ستاج» في بلد العجائب لمدة 15 يوماً وتصبحون جاهزين لمواجهة أعتى أزماتكم.

 

لا كهرباء في باريس وبرلين ولندن وامستردام وتقنين حاد يرافقه ارتفاع في الأسعار، لا داعي للهلع أو المغالاة في توفير الطاقة في البيوت. سرقة الكهرباء في هذه الحال محللة، خط «براني» موصول على لمبة البلدية أو معلق على خطوط الشبكة يضيء البيت بأكمله ويشغل الجلاية والنشافة أيضاً. سرقة الكهرباء من المنشآت العامة حلال، ألم تستفد الحكومات الأوروبية كفاية من معالمها السياحية وتدخل الى خزينتها مليارات اليورو؟ لقد آن الأوان للتشبه بمبادرة «ضوي شارعك» البيروتية وتزويد كل حي أو شارع قريب من معلم سياحي أو منشأة عامة بالطاقة على حساب الدولة… وفي حال تعذر مد خطوط خفية فالحل في المولدات الخاصة. «أبو كوكو» و»مروان» و»حسين» على استعداد لفتح فروع لهم في اوتريخت وشتوتغارت ونوتنغهام بمباركة حركة «أمل» وكل الحمايات السياسية… وإلا فإن «كرادينيز» جاهزة لإرسال «فاطمة غول» و «أورهان بيه» لفك أزمة أوروبا وتأمين الكهرباء لها وبلا مناقصات إذا لزم الأمر…

 

أما غاز التدفئة فتلك حكاية أخرى حلها أسهل بكثير من حل الكهرباء وكلفة التدفئة ليست بالصعوبة التي يخشاها الأوروبيون. الحل ابتكار لبناني خلاق «مولّع الدني». حريق مفتعل في Bois de Boulogne مثلاً يأتي على الأخضر واليابس يؤمن حطباً للتدفئة لكل أهل باريس. وما على هؤلاء سوى استيراد صوبيات الحطب من عاليه أو عكار و»القصة منتهية». أوروبا الخضراء تعج بالغابات والأحراش، وبعض الحطب المقطوع تحت جنح الظلام و»المشاحر» المختبئة في أرجاء بعيدة من الغابات ويصبح الفحم جاهزاً لكل الشتوية. وإذا عجزوا عن تحطيبه من الغابات فلبنان مستعد أن يرسل إليهم جيوش «النكيشة» تبحث عنه في المكبات أو المطامر (إذا وجدت) المعدّة لإعادة التدوير وبيعه بالكيلو لمن يدفع أكثر. أما إذا كان الحطب لا يكفي للتدفئة فليتشبهوا بمخيمات اللاجئين السوريين في البقاع، الذين حين تنقطع بهم سبل التدفئة يشعلون الخرق والأحذية القديمة وحتى غالونات البلاستيك للحصول على بعض الدفء.

 

وحده غلاء الأسعار لم يستنبط له اللبنانيون بعد حلولاً ويتضامنون بذلك مع اشقائهم الأوروبيين الذين يطالبون الدولة بمراقبة الأسعار وردع التجار الجشعين المحتكرين. لكن قد يفيدهم تسجيل أسمائهم لدى بعض الـ NGOS للحصول على «كراتين» الاعاشة. أما العائلات الأوروبية الأكثر فقراً فيمكنها التواصل مع الوزير هكتور حجار وانتظار البطاقة التمويلية الموعودة لتنال كل منها وبحسب عدد أولادها معها، مبلغاً شهرياً بالدولار ( الذي بات أغلى من اليورو) يعينها في أوقاتها الصعبة. صحيح أن «البطاقة التمويلية» جاهزة تقنياً للتنفيذ، ولكن ينقصها التمويل فربما يشد الاتحاد الأوروبي نفسه ويقدم التمويل المطلوب لشعوبه وشعب لبنان الذي ينتظر البطاقة منذ سنوات.

 

دروس في العيش المشترك

 

لا يبخل لبنان بتقديم النصائح العملية لأقرانه الأوروبيين في كل المجالات. أزمة البنزين في فرنسا والطوابير أمام محطات الوقود وما يتخللها من مشاغبات حلها بإغلاق المحطات نهاراً أمام الجماهير المنتظرة، وفتحها في زواريبها الخلفية ليلاً للمحظيين من اقارب واصدقاء لمنع اية مشاكل أمام المحطات. أو يمكنها اعتماد تعبئة الغالونات وفق جدول مواعيد مسبق ولا بأس أن ترسل العائلات كل فرد من أفرادها لملء غالونه الخاص، ومن ثم تخزين الكميات في براميل اسفل العمارات أو على الدرج ولا بأس بحصول بعض الحوادث وانفجار خزان من هنا واحتراق غالون من هناك، «يلي بدو الدح بدو يقول أح». ولمواجهة إضراب الشركات الكبرى وتحدي عنجهيتها يمكن لأصحاب المحطات تخزين البنزين والمازوت في خزانات بعيدة عن الأعين و بيع كمياتها بالتقطير لمن يدفع أكثر.

 

أما في ما خص العيش المشترك والتعايش الإسلامي المسيحي وتجنب الصراعات الطائفية والمذهبية في المجتمع الواحد، فلبنان مستعد لإشراك بلدان أوروبا كافة في «أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» التي أطلقها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والتي ستعمل على جعل لبنان «منصّة عالميّة تلتقي فيها جميع الإرادات الطيّبة في العالم لبناء، سويةً، ثقافة السلام والاحترام والوئام وحضارة المحبّة»، وفق ما قاله ناجي خوري منسق لجنة التنسيق في الاجتماع الذي شهده قصر بعبدا، للإعلان عن بدء أعمال اللجان المنبثقة من أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار التي تشكل قيمة مضافة للبنان والعالم بأسره.

 

وفي حال لم تف الأكاديمية بالمطلوب منها نظراً لضعف ثقافة الحوار في أوروبا فإن لجنة الحوار المسيحي الإسلامي على أتم الاستعداد لنقل مساعيها من بيروت الى أية عاصمة أوروبية لتحقيق أفق أرحب في الحوار بين الأديان.

 

أما إذا تصاعدت أعمال العنف وخطاب الكراهية بين الأديان فالطائف هو آخر الدواء ولبنان مستعد دوماً لمشاركة تجاربه المثمرة الناجحة مع الجميع.