IMLebanon

خريف المفاوضات المعقّدة وشتاء الرئاسة

تنقسم التوقعات حول المنحى الذي ستسلكه الأحداث في الشرق الأوسط بدءاً من نهاية أيلول المقبل إلى رأيَين متعارضَين، لا بل متناقضَين.

يعتقد الرأي الأول أنّ واشنطن الغارقة في معركة تمرير الاتفاق النووي عبر الكونغرس الأميركي تستعدّ لإطلاق حركة ديبلوماسية ستكون طويلة الأمد ومعقّدة بهدف إنجاز تسويات تطاول الساحات الملتهبة بهدف إعادة إنتاج معادلات جديدة، وأنّ هذه التسويات ستُحاكي الواقع الجديد الذي رسَت عليه المنطقة بعد التفاهم الأميركي – الإيراني بما يعني حفظ مصالح الجميع.

في المقابل، يبدو الرأي الثاني أكثر تشاؤماً، وهو على رغم أنه لا يُنكر وجود قابلية لدى الموجودين في السلطة، إن كان في واشنطن، أو حتى في طهران، للاندفاع في اتجاه تسويات سلمية، إلّا أنّ هذا الفريق يعتقد أنّ الإدارة الجديدة الآتية الى البيت الأبيض أكانت جمهورية أو حتى ديموقراطية، فإنها تبدو مقتنعة بأنّ مصالحها تقضي باستمرار النزاع العنيف في المنطقة.

كذلك فإنّ تيار المحافظين في إيران يرى خطراً داخلياً من خلال محاولة واشنطن إسقاط واستبدال العقيدة الاسلامية للدولة بالمصالح الاقتصادية، ما يجعل هذا الفريق مضطراً للاندفاع في معارك أكبر لشدّ العصب الداخلي وإبقائه مستنفراً حوله، إضافة الى معلومات لدى هذا الفريق باستعداد السعودية ومعها دول الخليج لمزيد من المعارك بغية انتزاع نقاط ميدانية من يد طهران ومنعها من ترجمة تفاهمها مع واشنطن في الجغرافيا.

واللافت أنّ الفريقَين يستشهدان بالخطاب الأخير للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله لدعم وجهة نظر كلّ منهما، خصوصاً أنّه جاء بعد لقائه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، فيما «حزب الله» محسوب كلياً على تيار المحافظين ويتمتّع بعلاقات عميقة مع الحرس الثوري.

ويعتقد المتفائلون أنّ هدف الخطاب، الذي جاء وفق منهجيّة مدروسة بإمتياز، شدّ العصب وتحضير الساحة للدخول في المفاوضات والتسويات من خلال سقف مرتفع، فيما يضعه المتشائمون في سياقه الواضح الذي يؤشّر إلى استمرار النزاع والاستعداد له جيداً.

وجاء كلام مرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي ليَزيد من تمسّك الفريقين كلّ بموقفه. المتفائلون وضعوه في خانة شدّ العصب، والمتشائمون تحدّثوا عن الاستعداد لمعارك حربية شرسة في كلّ من اليمن وسوريا ومواجهات سياسية عنيفة في لبنان. ويبقى السؤال: أيّ اتجاه هو الأصحّ؟

لا شكّ في أنّ الجميع ينتظر انتهاء النزاع السياسي الدائر في واشنطن داخل الكونغرس. والواضح أنّ النزاع يتركّز بنحوٍ أساسي داخل الساحة اليهودية حيث يُشكّل اللوبي اليهودي من خلال منظّمته القوية «إيباك» وبتحريض مباشَر من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو رأس حربة المجموعة الداعية الى إسقاط الاتفاق.

لذلك، يُشكّل الأعضاء اليهود في الكونغرس الأميركي وعددهم 28 محطّ أنظار الكتل السياسية التي تخوض غمار هذه المعركة. ويتوزّع هؤلاء الأعضاء اليهود وفق الشكل الآتي: 26 عضواً ينتمون الى الحزب الديموقراطي الحاكم. واحد يُصنّف نفسه بأنّه مستقل لكنه أقرب الى الحزب الديموقراطي منه الى الحزب الجمهوري. فيما ينتمي العضو الأخير الى الحزب الجمهوري.

9 أعضاء من هؤلاء الـ28 هم في مجلس الشيوخ، فيما الـ19 الباقون هم في مجلس النواب. البوانتاج الأوّلي يعطي حتى اللحظة تسعة من هؤلاء

لمصلحة التصويت مع الاتفاق في مقابل سبعة أعضاء ضده. أما الأعضاء الـ12 المتبقين فما زالوا متردّدين في اتخاذ موقف واضح.

والظاهر أيضاً أنّ ثمّة توازنات داخلية سيجرى العمل وفقها مع توزيع الأصوات هنا أو هناك، بحيث تكون الأكثرية ضدّ اتفاق «14 تموز» كما يُسمّيه الأفرقاء الأميركيون نسبة الى تاريخ توقيعه، شرط أن لا تصل نسبة الغالبية المعارضة الى الثلثين بما يضمن تمريره لاحقاً في أيلول.

وفي دلالة واضحة على الإفادة السياسية من عملية توزيع الأصوات، فإنّ السيناتور عن ولاية تينيسي بوب كوركر وهو الذي يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية أعلن معارضته الاتفاق إلّا إذا التزم الجانب الإيراني ضمان مصالح الولايات المتحدة الأميركية في العراق وسوريا ولبنان. الرسالة تبدو واضحة لمرحلة ما بعد إقرار الاتفاق وما قبل وصول إدارة جديدة الى البيت البيض.

وبغضّ النظر عن الجلبة التي تُحدثها المواجهات داخل الكونغرس الأميركي، فإنّ دوائر وزارة الخارجية باشرت منذ فترة تحضير ملفاتها حول التسوية في الشرق الأوسط بدءاً من سوريا.

ويأتي قرار مجلس الأمن في هذا السياق، فهو الأول من نوعه منذ فترة بعيدة يتحدث عن تسوية في سوريا ويحظى بموافقة روسيا التي ضغطت على المتردّدين لمنع إفساد الطبخة. قرار صاغته فرنسا وتحاشى التطرّق الى الرئيس بشار الأسد الذي سيبقى رئيساً للبلاد على الأقل خلال فترة الإعداد للتسوية. والأهم في القرار هو الإقرار بوجود هيئة انتقالية مع تأكيد استمرار تركيبة النظام الحالي (العسكري والأمني).

وبعد ذلك بساعات أعلن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أنّ الملفات جاهزة لعقد «جنيف 3». قبل ذلك، حصلت الخطوة الأكثر إثارة وهي زيارة اللواء علي مملوك للسعودية ولقاؤه ولي ولي العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان. ومهما اجتهَد الجميع في تبرير ما حصل فإنّ رمزية اللقاء واضحة ويضعها الديبلوماسيون في إطار بداية التحضيرات لفتح الطريق أمام المفاوضات والتسوية.

لكنّ الصحافي في «فورين بوليسي» أندرو بوين، المعروف بقربه من دوائر القرار الأميركية يعتقد أنّ إيران لم تكن متحمّسة لدعم التواصل المباشر وغير المعلن بين البلدين في الوقت الراهن، وهو يضع تسريب الخبر في هذا الإطار.

وربما في كلامه هذا، يفسّر أندرو بوين الخلفية التي ينطلق منها أصحاب النظرة التشاؤمية. لكنّ هؤلاء يعتقدون أنّ المواقف المتصلبة التي تظهر الآن إنما هي سياسة ثابتة للمرحلة المقبلة. فيما الأوساط الديبلوماسية الغربية تبدو واثقة بأنها تأتي في إطار شدّ العصب وترتيب الوضع الداخلي ورفع السقف ولكن تحضيراً للتفاوض والتسوية وليس للشروع في حروب جديدة.

وهذا يعني بالنسبة الى لبنان الاستعداد لخريف المفاوضات الذي سترافقه سخونة سياسية داخلية ورئيس جديد ينتج عن تسوية شاملة إما نهاية العام أو مطلع العام المقبل.