IMLebanon

راجعة بإذن الله

 

المهرجانات صناعة رابحة وشريان حيوي لمدن لبنان وقراه

 

بعد غياب موجع لثلاث سنوات عكس غياب الحياة والأمل والليرة عن لبنان ها هي مهرجانات لبنان تعود لتطل برأسها بشكل خجول جداً عبر حفلات متواضعة هنا وهناك. بعد ” ليلة أمل” مع أسامة الرحباني وهبة طوجي، أعلنت مهرجانات بعلبك عن أربع حفلات في شهر تموز فيما السكوت لا يزال مخيماً على المهرجانات الأخرى. فهل تستطيع هذه الحفلات أن تعيد الى المهرجانات زخمها لتعود رافعة للعجلة الاقتصادية في المدن والقرى في وقت لبنان في أمس الحاجة لدفعة الى الأمام؟

لم يعد الكلام عن الدور الفني والثقافي للمهرجانات اللبنانية أولوية لأنه تأكيد المؤكد، فقد استطاعت تلك المهرجانات بدون أدنى شك وضع لبنان على جدول جولات أهم الفنانين والفرق العالمية وشكلت الإطار الراقي الذي يطل منه الفنانون اللبنانيون والعرب بأفضل صورة. ولا عاد من الضرورة القول إنها نقلت صورة لبنان الحياة والثقافة والانفتاح الذي طالما تغنى به أهله في وجه ثقافة التقوقع والأدلجة والخطب الخشبية البائدة. ما يهمنا اليوم هو الدور الذي كانت صناعة المهرجانات تلعبه على الصعيد الاقتصادي والإنمائي والسياحي في كل المناطق الساحلية كما الجبلية والريفية و كيف ساهمت في خلق فورات اقتصادية حيثما تواجدت.

 

رافعة اقتصادية انمائية

 

هي حقاً صناعة منتجة يقول العارفون بتفاصيلها، لا يقتصر مردودها على الجانب المعنوي بل يفيض ليطال كل العاملين فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. فالمهرجانات كانت تحفّز حركة سياحية واقتصادية هائلة على عكس ما يظن بعض المسؤولين اللامسؤولين بأنها لا تدخل أموالاً إلى الدولة فيما هي تدفع مالية وضرائب ورسوم دخول الأجانب الى البلد وحقوقاً أدبية، ويقول لنداء الوطن السيد عبدو الحسيني المدير العام التنفيذي لشركة Box Office ticketing التي تتولى بيع بطاقات معظم المهرجانات اللبنانية ساحلاً وجبلاً وتعرف كل الأرقام ومدلولاتها، أن المهرجانات تساهم في تنشيط الحركة في المناطق على كافة الصعد. فمهرجانات بعلبك مثلاً أو إهدن والأرز وغيرها من المهرجانات التي تقام في مناطق بعيدة تجعل كل الفنادق وبيوت الضيافة والشاليهات تمتلئ طوال فترة المهرجان، فالعاملون والفنانون والزوار والسياح كانوا يسكنون في المنطقة لليلة او ليال مع ما يعنيه ذلك من تشغيل لكل القطاعات الأخرى فيها من مطاعم ومحلات وأرتيزانا وصناعات حرفية ومونة وغيرها، وكانوا يقومون إضافة الى حضور المهرجان بنشاطات سياحية مختلفة في المنطقة وينفقون مبالغ يستفيد منها الجميع من بائع المناقيش وأكشاك القهوة والعصائر الى من يؤجر عربات الـ ATV ويعد نشاطات التجول في الأماكن الأثرية والسياحية وغيره كثيرون من أمثال شركات النقل والباصات ومكاتب السفر والسياحة.

 

في زمن العز غير البعيد، كان العاملون في المهرجانات من أبسط الوظائف الى أهمها 100% من اللبنانيين: من الفاليه باركينغ والشبان والشابات الذين يتولون إيصال الرواد الى مقاعدهم الى العاملين على المدرجات وفي الكواليس ومن يركّبون المسرح والمدرجات وصولاً الى الفئات التقنية المختصة ممن يتولون أجهزة الصوت والإضاءة والمؤثرات البصرية وفرق التصوير التلفزيوني وغيرهم من المختصين الذين باتوا مرجعية تقنية في المهرجانات والأحداث الفنية في العالم والعالم العربي. في بوكس اوفيس وحدها كان عديد الموظفين أثناء المهرجانات يرتفع من 30 الى 100 شخص و يزداد بنسبة ثلاث الى أربع مرات. فأين هم هؤلاء كلهم اليوم؟

 

يشرح المحامي رفايل صفير رئيس مهرجانات بيبلوس ورئيس جمعية Via Appia أن المهرجان على اختلاف نشاطاته كان يشغل في الفترة الممتدة على شهرين ونصف حوالى 800 شخص لقاء بدل مادي، هذا عدا عما كانت تشهده مدينة جبيل من نشاط يزيد مرتين ونصف الى ثلاث مرات عن نشاطها العادي بحيث يتوافد إليها في كل حفلة حوالى 10000 شخص إضافي يساهمون في خلق حركة عظيمة فيها. فالمطاعم مثلاً تشهد 3 دورات ليلية في حين أنها في الأيام العادية تشهد دورة واحدة هذا عدا عن كل النشاطات الأخرى في المؤسسات التجارية والحرفية التي تستقطب رواد المهرجانات و إحياء السياحة الداخلية ودور الأدلاء السياحيين الذين يعرفون الناس الى النشاطات السياحية المختلفة في كل منطقة جبيل. من دون ان ننسى الحراسة والتنظيفات والتاكسيات التي يحرص المهرجان على أن يكون العاملون فيها من مدينة جبيل و محيطها. هذه النشاطات كلها تتوقف مع توقف المهرجانات الصيفية وتغيب الوظائف وتتراجع الحركة التجارية والسياحية رغم كون جبيل مدينة سياحية تستقطب الزوار في كل الأوقات.

 

 

الاستمرار بإنتاج بسيط

 

المهرجانات الكبرى تحرص اليوم على الاستمرار ولو من حلاوة الروح إثباتاً لوجودها وحفاظاً على دورها وهذا ما تشير إليه حفلات مهرجان بعلبك الأربع وما يعد له مهرجان بيبلوس. فهذا الأخير يحضّر لخمس أو ست حفلات في أواخر شهر تموز بميزانية وكلفة محدودتين يتوقف تنفيذها على تأمين التمويل لها كما يقول المحامي صفير. فالوقت هو لعصر النفقات ولا للتجهيزات والمسارح الضخمة المكلفة وقد يكون مسرح المهرجان في موقع ثان وبكلفة أقل، أما الفنانون فهم لبنانيون انطلقت شهرتهم من جبيل وهم على الاستعداد للمشاركة وفاء للجميل أما الأجانب فلا حضور لهم. ولكن رغم بساطة الانتاج الفني يتوقع صفير أن تشهد المهرجانات أعداد الزائرين ذاتها أو أن يكون الإقبال أكثر مع عودة جارفة للمغتربين كما هو متوقع وتخصيص لجنة مهرجانات بيبلوس حزمة متكاملة لهم تضم الفندق والزيارات والنشاطات السياحية وحضور الحفلات، ما سيساهم في تنشيط الحركة من جديد في جبيل لكن الوظائف التي كان يؤمنها المهرجان لم تعد ممكنة لا بل سيعتمد المهرجان على المتطوعين المستعدين لتقديم خدماتهم من دون بدل.

 

العاملون في صناعة المهرجانات يؤكدون كل من موقعه أن الحفلات المتوقعة لا يمكن أن تعيد الى المهرجانات زخمها السابق وليست أكثر من مساهمة معنوية لا تعود بالأرباح على القطاعات العاملة فيها ولا سيما التقنية منها. فالإتيان بفرق عالمية صار مستحيلاً اليوم كما يقول عبدو الحسيني مع عدم إمكانية القيام بتحويلات عبر المصارف للفرق العالمية التي لا تحضر الى لبنان إلا إذا كان الوضع مستقراً سياسياً و اقتصاديا ولا قبل أن تنال مستحقاتها. وفي هذا السياق يقول شادي سعد صاحب ورئيس شركة Blue Sound للتجهيزات الصوتية التي تعتبر من الأهم في هذا المجال في لبنان أن السوق اللبناني كان أصلاً حتى قبل العام 2019 متعباً لأن انخفاض القدرة الشرائية لدى اللبناني كانت قد بدأت مؤشراتها تظهر منذ ذلك الوقت وكان ربح الشركات المختصة من المهرجانات و الحفلات الترفيهية الكبرى “على القد” لكنها كانت تعمل وتثبت جدارتها وتبني لنفسها اسماً لامعاً. وهذا ما جعلها محط أنظار العالم العربي. فقد صارت هذه الشركات بفضل عملها في مهرجانات ضخمة ومع فنانين كبار وبفعل امتلاكها أعلى المستويات التقنية مرجعاً يتهافت عليه صناع الترفيه في العالم العربي. لكن منذ العام 2019 يقول شادي سعد توقف العمل نهائياً وماتت هذه الصناعة على صعيد المردود الذي أصبح صفراً والحفلات التي يمكن أن تجرى في الصيف لا يمكن أن تغطي الخسائر التي تكبدتها الشركات نتيجة توقف الحركة الترفيهية وحركة المهرجانات او أن تسد التكاليف.

 

القطاع الترفيهي الخاسر الأكبر

 

هذه الشركات التي كانت قادرة مع بدء الثورة على الاحتفاظ بموظفيها، بعضها توقف كليا عن العمل بعد ذلك وبعضها غادر للعمل في البلدان العربية او هاجر الى الخارج مع ما يعنيه ذلك من عدم قدرة على الاحتفاظ بالموظفين والتقنيين. فالقطاع الترفيهي يقول سعد هو أول قطاع يتوقف نتيجة الأزمات وآخر قطاع يعود الى السير عندما تتحسن الأحوال وهو قد يربح كثيراً ويخسر كثيراً والخسارة دوماً أسرع من الربح لأنه لا يتعامل بالعنصر البشري فحسب بل إن المعدات وصيانتها و تجديدها ومواكبة التطور هي أمور مكلفة واي توقف لحركة المهرجانات والحفلات يجعل الكلفة على الشركات أكبر لا سيما تلك التي تمتلك معدات متطورة وفريقاً تقنياً خاصاً بها.

 

مؤسف توقف هذه العجلة الانتاجية الكبرى التي كانت تعود على ناسها بمردود كبير سواء مباشر أو غير مباشر وتوظف طاقات بشرية لا سيما في الشركات المتخصصة وتساهم في تكوين تقنيين متخصصين وتأمين مجالات عمل لهم تعتاش منها عائلات بأكملها كما يقول سعد وتساهم في شراء معدات وإنفاق مبالغ كبيرة عليها. ومؤسف أن تتوقف مع المهرجانات حركة دخول السياح الى البلد كما يقول عبدو الحسيني فأعداد هؤلاء كانت تزداد من 10 الى 20% في أوقات المهرجانات ولا سيما الحفلات الكبرى التي تضم فنانين عالميين وكان الزوار يقصدون لبنان من البلدان العربية وحتى من قبرص واليونان وأوروبا خاصة إن كانت أوروبا لا تدخل ضمن جدول حفلات هذا الفنان او ذاك، ويذكر حسيني شاكيرا وبوتشلي وكاظم الساهر الذين كانوا يستقطبون زواراً من كل العالم. اما المهرجانات الصغيرة فقد أخرجت الى الضوء مناطق لم تكن معروفة مثل بكاسين وغلبون والقبيات وغيرها ووضعتها على الخارطة السياحية وانعشت ناسها ومحيطها وجعلت المصايف المعروفة مثل إهدن وزحلة والأرز أكثر حركة وازدهاراً.

 

أكثر من 80 مهرجاناً كانت تقام في لبنان لتشعل صيفه وتجعله قبلةً للسياح. معظمها لم يكن يحقق أرباحاً ومعظم لجانها تعمل تطوعاً سواء كانوا أفراداً او جمعيات لا تبغى الربح لتغطي الخسارة وتترك الربح لمشاريع قادمة لكن كلها كانت تحرك المحيط من حولها. وكانت تعتمد الى جانب لجانها على الرعاة من مصارف وشركات تأمين او طيران لكن الواقع انقلب اليوم وصار كل هؤلاء الرعاة الذين يعول عليهم لتأمين التمويل بحاجة لمن يمولهم فطارت الأموال وطارت معها المهرجانات.