IMLebanon

تعويض الخسائر باللامركزية المالية

 

 

ينص الباب (3) الوارد تحت عنوان “الإصلاحات الأخرى” في وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن اتفاق الطائف على البند (أ) تحت عنوان “اللامركزية الإدارية” ثم يتضمن 5 فقرات، لا يأتي أي منها على ذكر اللامركزية المالية، بل تتناول الأولى منها عبارة “الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية”، والثانية توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين… والثالثة إعادة النظر في التقسيم الإداري، والرابعة اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة وانتخاب مجلس لكل قضاء تأميناً للمشاركة المحلية، والخامسة على خطة إنمائية شاملة لتطوير المناطق وتنميتها وتعزيز موارد البلديات بالإمكانيات المالية اللازمة…

 

في اختصار وثيقة الوفاق لم تأتي على ذكر اللامركزية المالية لأن مناقشات النواب في العام 1989 قامت على استبعاد أي نص يشتمّ منه القدرة على التحكم بالمالية العامة من قبل فريق طائفي بذاته، لا سيما في المناطق الإدارية ذات اللون الطائفي الغالب. فالحرب الأهلية أدت إلى نشوء ما سمي “إدارات محلية” و”صناديق وطنية” تولت جمع الضرائب والرسوم الإضافية على تلك المفروضة في قوانين الدولة الصادرة عن البرلمان، وفي قرارات السلطة التنفيذية. وفي حينها سميت “خوات” فرضتها الميليشيات الطائفية على الحواجز وعلى المعاملات الرسمية خصوصاً أنها هيمنت على إدارات الدولة بهذا القدر أو ذاك فأجبرت المواطن على دفع مبالغ إضافية لتسيير أموره في الدوائر الرسمية. كانت هذه الأموال التي تجبى تموّل الميليشيات من جهة، وجيوب قادة المحاور الذين نخر الفساد والطمع الكثر منهم فاغتنوا باسم الدفاع عن الطائفة في وجه “العدو” الطائفي الآخر.

 

الخشية في الطائف كانت من أن تغذي الاستقلالية المالية للمناطق منطق الانعزال والإدارة الذاتية التي بالإمكان أن تتوسع فتصبح أمنية، طالما تتيح القدرة المالية ذلك، وأن تعزز تلك القدرة، سلطة أمراء الحرب ومنطقهم، فيما وثيقة الوفاق صيغت من أجل وقفها وإعادة توحيد البلد.

 

وإذا كان مفهوماً أن يرد بيان الرئاسة أمس على اتهام الرئيس ميشال عون من قبل بعض خصومه بالاتجاه نحو نزعة تقسيمية، فإن المستغرب أن ينص على أن “اللامركزية الإدارية واللامركزية المالية صنوان من ضمن ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني”. أما الاجتهاد بالاستناد إلى عبارة “تعزيز موارد البلديات بالإمكانيات المالية”، لتبرير الدعوة إلى أن تشمل اللامركزية الجانب المالي، فهو أشبه بالبحث عن الشمس في الليل الحالك.

 

تدغدغ الدعوة إلى قدر من الاستقلالية المالية للتجمعات الديموغرافية الطائفية والتي ستكون مفتوحة على شتى الاحتمالات والاجتهادات في ممارستها، مشاعر نَمَت في السنوات الأخيرة لدى أكثر من طائفة بسبب “لامركزية المقاومة” في المناطق الشيعية، بما تعنيه من عقيدة وتعبئة دينيتين ونمط حياة وانتماء وولاء لمحور تتزعمه إيران، استطاعت فرض نوع من الهيمنة على سياسات الدولة المركزية بقوة السلاح.

 

في حالة الفريق العوني الذي تعايش مع فرض هذا النمط المعاكس للفسيفساء اللبنانية والمحيط العربي، والذي يحمل لواء استرداد حقوق المسيحيين، ترمي هذه الدعوة إلى اللامركزية المالية للتعويض عن الخسائر السياسية والاقتصادية الناجمة عن التحالف الهجين الذي أقامه مع فريق “لامركزي” أولياته في العمق إقليمية. كان الهدف من التحالف الوصول إلى السلطة والاستئثار بمغانمها. وحين صارت هذه السلطة مهددة ولا تدر المكاسب، بعد أن أسقطها الفساد والإفلاس المالي، ولم يعد الانحياز إلى الخيارات الخارجية يضمن التحكم بالسلطة المركزية، بات يرى مصلحته في نمط من الانعزال والإدارة الذاتية المالية، ليبقى التحالف المركزي متوقفاً على المصلحة، لا على مقتضيات العيش المشترك وفق الصيغة اللبنانية التقليدية.

 

يتوهم هذا الفريق أن الهروب نحو الإدارة المالية اللامركزية ينقذه من تراكم الخسائر على الصعيد الشعبي، وأنه يعيد له بعض المقبولية التي فقدها ويأمل بجر خصومه إلى هذا الخيار، في وقت يتعامى عن أن صيغة كهذه لا تفعل سوى التأسيس لمعارك سياسية تعمق الانقسامات الداخلية وربما تؤدي إلى حروب من شتى الأنواع.

 

ما لا يجرؤ عليه ويتجنب أثمانه الفريق العوني هو الحل الذي ينقل “لامركزية المقاومة” التي يمارسها “حزب الله” إلى حصر المقاومة وسلاحها بيد السلطة المركزية، عبر الاستراتيجية الدفاعية، فيلجأ إلى لامركزية مقابلة.

 

شتان ما بين الدور الإنمائي الداخلي في كل منطقة للكانتونات السويسرية، وبين الخلفية السياسية التي تقف وراء مطلب اللامركزية المالية المطروحة للبنان.