IMLebanon

من حكايا لبنان السياسية المنسية الدستوريون والكتلويون يتبادلون خطف النائب محمد قزعون

 

كثيرة وعديدة تقلبات السياسيين في لبنان منذ زمن بعيد، ومشهور المثل الذي يقول عندنا «نقل البارودة من كتف إلى كتف»، وقد يكون مبدأ ميكافيلي «الغاية تبرر الوسيلة» له ملعبه الواسع، بيد ان التجارب والممارسات لا تخلو من مبدئية تميز بها كثيرون في التاريخ السياسي اللبناني، لنعود إلى النصف الثاني من عام 1935، بعد انتخاب إميل إده رئيساً للجمهورية في دورة الإقتراع الثانية بأكثرية 14 نائباً، مقابل 11 لبشارة الخوري، والصوت الإضافي في الدورة الثانية لصالح إده كان لعضو الكتلة الدستورية النائب كميل شمعون الذي لم يعين في حكومة إميل إده الأولى برئاسة خير الدين الأحدب وزيراً، فكان أن عاد إلى  الكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري، أي أن مجلس النواب أصبح مؤلفاً من 13 نائباً للكتلة الوطنية مقابل 12 للكتلة الدستورية.

الصوت الواحد للموالاة زيادة عن المعارضة لم يكن يقنع الدستوريين، ويقول الرئيس بشارة الخوري في مذكراته «حقائق لبنانية»: في يوم التاسع من آذار أيقظني من نومي صبري حمادة وميشال زكور ليعلماني باستعداد الدكتور  محمد أمين قزعون للانضمام إلى الدستوريين بحيث يصبحون أكثرية، وهو يطلب الاجتماع بنا ليعلن الإنضمام إلينا ببيان معلل، فسررنا بالأمر وابتدأنا اتصالنا به وقررنا إجتماعاً عاماً للدستوريين في دارنا مساء 11 آذار، وبينما نحن نعد بياناً عن انضمام النائب إلينا وأننا اصبحنا أكثرية نستطيع حجب الثقة عن الوزارة سمعنا دوياً هائلاً أمام البيت، أعقبه اطلاق رصاص على صالة الاجتماع، فارتج المسكن وجواره ورأينا حفرة كبيرة في الحديقة وآثار رصاص على حائط الشرفة أمام قاعة اجتماعنا وقد تحطم زجاج بيتنا وبيت جارنا ميشال شيحا.

وعلى الأثر اتصل المفوض السامي بي شخصياً وأوفد المسيو بوشيد مدير الامن العام الفرنسي ليباشر التحقيق، فطفنا معه في البيت وهمس في أذني: «يريدون أن يلصقوا التهمة بالشيخ فريد صديقكم، وعلى الرغم من صداقتي للرئيس إميل إده سأقول للمفوض السامي أن الجريمة ليست مفتعلة، بل هي محاولة قتل ضدكم وضد أصدقائكم، وخصوصاً أن الرصاص دوى أثناء انفجار القنبلة وصوب إلى محل اجتماعكم، إنما علينا أن نكشف المجرم وخير الدين الأحدب رئيس الوزارة ونور الدين الرفاعي مدير البوليس والفرد ثابت مدع عام للإستئناف.

ويصف الرئيس صبري حمادة كيف عمل لتحويل الدكتور قزعون من الموالاة إلى المعارضة، بقوله: «ليس هذا المهم، بل الأهم بكثير تكليف خير الدين الاحدب بتشكيل الوزارة التي اقتصرت، دائماً وأبداً على من انتخبه من النواب»، وكان عدد من الموالين قد عاد إلى ما كان عليه بعودة كميل شمعون إلى حظيرتنا، لم يرق لنا نحن أي المعسكر الثاني خلو الحكومة من أحدنا، فرأيت أن ننتزع منهم الاكثرية ونستميل أحد الذين يعتمدون عليهم، فقصدت من توي ميشال زكور في منزله، أقنعته حجتي فرافقني في زيارة للشيخ بشارة الخوري الذي أقر عدم اقرارنا لخير الدين الاحدب في إقصائنا  المتعمد عن الحقائب الوزارية.

ومن ثم أخذت على عاتقي تحويل نائب موال إلى نائب معارض، فنجحت في مسعاي، وجئت بالدكتور محمد قزعون، ولو اتيح له أن   يرجم في الغيب ويعرف ما سيتعرض له من جراء ذلك، لبقي حيث كان، يتربع سعيداً في صفوف الموالين.

يضيف الرئيس حمادة: ما أن علم خير الدين الاحدب بالأمر حتى ارسل من يخطف الدكتور قزعون ويحتجزه في منزل وأحد من  آل حمادة الواقع بالقرب من صيدلية حمادة، ولم يقف رئيس الوزراء عند هذا الحد، بل كلف آخرين بإلقاء قنابل على منزل الشيخ بشارة الخوري وإطلاق الرصاص علينا فيما نحن مجتمعون في الداخل.

ويتابع: حين تمكنت من  معرفة المكان الذي احتجز فيه الدكتور قزعون اقتحمته، والتعبير هنا صحيح لا مجاز فيه، فالمنزل في الواقع كان مطوقاً برجال خير الدين الاحدب المسلحين، وقد كلف بعضهم بحراسة النائب المحتجز الذي قال لي بأسى حين رآني: ما زلت على وعدي لكني محتجز كما ترى.

ويقول الرئيس حمادة: عدت إلى اقتحام صفوف الحرس مرة ثانية برفقة الدكتور قزعون ولكنه ما كاد يصل إلى منزله حتى عاودوا الكرة وخطفوه مرة ثانية، وعهدوا به إلى أبو زهير جلول، وكان من أخلص رجال رئيس الوزراء، ذهبت أطرق باب ابو زهير دون جدوى فقفزت فوق سور الحديقة وتمكنت بمشقة من العثور على الدكتور قزعون، والحق يقال أنه بالرغم مما تعرض له من خطف واحتجاز على يد رجال مسلحين لم يمانع في التوقيع على ما طلبت التوقيع عليه.. وقد ادى ذلك التوقيع، وتحولنا من أقلية إلى أكثرية ولو بصوت واحد إلى حل المجلس لاحقاً.

وبأي حال، فقد أسفر هذا الواقع عن قيام حكومة إئتلافية في 14 آذار 1937 برئاسة خير الدين الأحدب الكتلوي وميشال زكور واحمد الحسيني، (دستوريان) وحبيب أبي شهلا (كتلة وطنية) ونالت هذه الحكومة الثقة، لكن العلاقات بين أعضائها ظلت بين مد وجزر، وبهذا لم تعمر هذه الحكومة طويلاً، خصوصاً بعد وفاة ميشال زكور بسكتة قلبية، فعين أميل إده بدلاً منه جورج ثابت المحسوب على الكتلة الوطنية، وصارت هذه الحكومة كلها من لون واحد، خصوصاً بعد أن نجح الرئيس اميل إده بضم الوزير الحسيني إلى الكتلة الوطنية.

وفي شهر تموز انضم النائبان خليل أبي اللمع وإبراهيم حيدر إلى الكتلة الدستورية فتعززت الكتلة الدستورية.. وفي 14 تموز 1937 حل مجلس النواب ودعي الناخبون للإقتراع في مهلة ثلاثة أشهر… ليكون البلد امام مرحلة جديدة في تاريخه السياسي، وخصوصا ان المجلس الجديد لم يعمر طويلا، إذ ما ان اندلعت الحرب العالمية الثانية في الاول من ايلول 1939 حتى علق المفوض السامي الفرنسي الدستور وحل البرلمان.