IMLebanon

من الصندقجي إلى الدكنجي

 

في ظل الأجواء الضاغطة بضرورة القيام بإجراءات إصلاحية فرضتها التزامات الدولة اللبنانية في مؤتمر «سيدر» والتي يأتي في رأس سلم أولوياتها القيام بإصلاحات مالية، تخفف العجز المتنامي في الموازنة العامة منذ ما يزيد على عقدين ونصف، عادت الحملة التي بدأت في أواسط تسعينيات القرن الماضي، والتي طالبت بتخفيض رواتب العسكريين وملحقاتها مع تركيز خاص على رواتب المتقاعدين.

 

بدأت هذه الحملة على رواتب العسكريين والمتقاعدين على لسان وزير المالية الاسبق فؤاد السنيورة – والذي دفعني بمطالبه الظالمة ضد العسكريين الى كتابة مقال في صحيفة الديار تحت عنوان «الصندقجي». وعنيت بـ«الصندقجي» القائم على صندوق المال والذي يسعى لتأمين استمرارية تدفق المال الوافر الى الخزينة، تجاوباً مع مطالب رئيس الحكومة وحاجته لتمويل مشاريعه البنيوية الكبرى. بعيداً عن كل رؤية اقتصادية ومالية وعن مراعاة الأبعاد الاجتماعية فرضت في حينه سلة من الضرائب غير المباشرة، بالإضافة الى ضرائب عالية على العمليات العقارية بما فيها رسوم انتقال الإرث، حيث بلغت مستوياتٍ لا يمكن للوارثين تحملها، في الوقت الذي بقيت فيه الضرائب على الأرباح العالية ثابتة على مستوى 10 في المائة دون تحديد السقف.

 

كانت السياسة المالية والضرائبية قصيرة النظر، لا تخدم الاقتصاد، وقد أدت الى الهدر وتنامي الدين العام واستشراء الفساد السياسي والمالي، في ظل تواطؤ الأثرياء وأصحاب المصارف والسياسيين.

 

قبل تشكيل الحكومة الراهنة عادت هذه الهجمة المطالبة بتخفيض رواتب العسكريين والمتقاعدين، في الوقت الذي كانت وزارة المال تعد الخطط لبلورتها في موازنة عام 2019 تحت شعار الإصلاح المالي وتخفيض العجز المتوارث، مع تجاهلٍ كلي لأبواب الهدر وللقطاعات التي تؤمن الواردات العالية لتغطية النفقات الحكومية.

 

جاء مشروع الموازنة الذي تقدم به وزير المال علي حسن خليل خالياً من أي رؤية مالية واقتصادية، متجاهلاً الموارد الأساسية لخزينة الدولة ومركزاً على اقتطاع ما أمكنه من الرواتب بما فيها رواتب العسكريين والمتقاعدين.

 

انطلاقاً من ثقافتي الخاصة في علم الموازنة العامة، يمكنني وصف مشروع الموازنة بأنه قصير النظر، حيث أن التدابير المعتمدة بخفض العجز هي لذر الرماد في العيون، وتنتهي مع انتهاء السنة المالية الجارية دون أن يكون لها أية مفاعيل إيجابية على موازنة عام 2020، حيث ستعود الدولة لتواجه نفس المعضلة والبحث عن مصادر جديدة لتغطية الإنفاق.

 

إذا كان قد سبق لي أن أطلقت على وزير المالية الأسبق لقب «الصندقجي» فإني لا أظلم وزير المالية الحالي إذا أعطيته لقب «الدكنجي»، أي صاحب الدكان الصغير والذي لا يمكن أن يترقى إلى درجة التاجر. في الواقع يمكن القول بثقة بأنه في زمن «الصندقجي والدكنجي» لا يمكن أن يأمل اللبنانيون بأي إصلاح مالي انطلاقا من اعتماد سياسية ضريبية حكيمة، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والمالية والاجتماعية اللازمة للنهوض الاقتصادي ووقف تنامي المديونية العامة والتي باتت تهدد بالإفلاس.

 

من المؤكد أنه لا يمكن تحميل وزير المالية الحالي كل الخطايا المالية والاقتصادية التي تسببت بها سياسات العقود الماضية مع كل الإسراف والهدر والفساد، دون وجود أية ضوابط تفرضها موازنات الدولة. لكنني أحذر في نفس الوقت من محاولة الانزلاق الى تحويل تلك الخطايا إلى خطايا اجتماعية وإنسانية، من خلال تخفيض رواتب العسكريين والمتقاعدين. ولا بد من إرفاق هذا التحذير بدعوة الوزير للإقلاع عن سياسية «الدكنجي» والتوجه نحو أبواب الواردات الأساسية للخزينة ومن بينها: تحصيل الضرائب العادلة، ومنع التهرب الضريبي وضبط جباية الكهرباء والعائدات الجمركية، واستعادة قطاع النفط والغاز والهاتف الخليوي وإدارتها بكفاءة من قبل الدولة، ودون اغفال ما يمكن ان تجنيه الدولة من تسويات الاملاك البحرية.

 

لا بد من دعوة القيادات السياسية الى فك التواطؤ القائم بينها وبين أصحاب الأموال وعلى رأسها المصارف والتي عليها أن تتحمل جزءًا من العجز الحاصل في الموازنة سواء من خلال فرض ضرائب تصاعدية على أرباحها أو من خلال تخفيض مستوى الفوائد على سندات الخزينة.

 

ولا بد ايضا أن تترافق موازنة عام 2019 مع عملية إصلاحية واسعة تطاول كل القطاعات والمؤسسات، وتسد أبواب الهدر والفساد، مع ضبط جميع الموارد التي يمكن أن توفر مليارات الدولارات للخزينة.

 

إذا كان لي من دعوة مخلصة وصادقة أوجهها للحكومة فإنني أدعوها لإعادة النظر بكل أبواب الموازنة، مع تجنب أية محاولة لقضم رواتب العسكريين والمتقاعدين، وأن تتعظ من التحركات التي قام بها هؤلاء أمس لأن أي مساس بحقوقهم سيدفعهم الى أعمال تصعيدية لا تحمد عقباها، ويمكن أن يتصف بعضها بالخروج على المألوف. لا يكفي أن نفتش عن كيفية خفض العجز في الموازنة بل ينتظر المواطن من سيد العهد ومن حكومته اعتماد خطة إصلاحية واسعة، تقتص من الفاسدين وتستعيد جزءًا من المال المنهوب. لا يمكن الرجاء والأمل بعد اليوم باستعادة ثقة المواطنين والعسكريين بالدولة وأركانها إلا من خلال خطة إصلاحية شاملة.