IMLebanon

إلى متى تستمر أميركا في موقفها خارج التاريخ!

 

يبدو بأن الحرب في غزة قد تحوّلت الى حرب «القضاء والقدر»، مع توقع استمرار عمليات القتل الجماعي والتدمير لأسابيع عديدة او لبضعة اشهر، والى حين ان تحقق اسرائيل «نصراً مبيناً» على حماس، وفق ما صرح به الاسبوع الماضي رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو.

لم تنفع زيارات وزير الخارجية والدفاع انطوني بلينكن ولويد اوستن، ومعهما زيارة مستشار الامن القومي جيك سوليفان في تحريك الموقف الاسرائيلي قيد أنملة، سواء لجهة قصف المناطق الآهلة في غزة او لجهة تسهيل مرور المساعدات الانسانية باتجاه القطاع من اجل وقف المجاعة، او لتأمين المستلزمات الطبية لتخفيف تفشي الامراض بين مليوني مواطن، اصبحوا جميعاً لاجئين، ويواجهون ظروفاً غير انسانية بالمطلق.

 

تلعب الولايات المتحدة دور الشريك الاساسي للحكومة اليمينية الاسرائيلية في هذه الحرب، وكان من المتوقع منها ان تستعمل نفوذها كشريك في الحرب وكدولة عظمى من اجل اقناع القيادة الاسرائيلية بوقف او بتغيير مستوى العنف والتدمير الممنهج الذي تتبعه ضد المدنيين، تمهيداً للبحث عن حل سياسي ودبلوماسي للازمة الراهنة، والتي باتت تنذر بتمدد المواجهات الى لبنان، والى البحر الاحمر وبحر العرب، ناهيك عن الاستهدافات المتكررة للقواعد الاميركية في كل من سوريا والعراق، لكن يبدو بأن شعب غزة متروك لمواجهة مصيره المجهول.

تمثل المجزرة القسرية التي تنفذها اسرائيل ضد شعب غزة نتيجة طبيعية وتاريخية لتلاعب الغرب الاوروبي بمصائر شعوب الشرق الاوسط بعد تفكك وسقوط الامبراطورية العثمانية، سواء من خلال اتفاقية سايكس – بيكو او من خلال وعد بلفور وإنشاء دولة اسرائيل، متنكرة لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخية في ارضه، وحقه في اقامة دولة فلسطينية مستقلة.

 

كما ان ما يجري في غزة وفي مختلف ارجاء المنطقة، من اقصى شمالها الى اقصى جنوبها ما هو الا نتيجة واقعية للاستراتيجيات الخاطئة التي اعتمدتها الولايات المتحدة باسقاط النظام الامبراطوري في ايران، ووصولاً الى غزو العراق عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين،وغزو النفوذ الايراني الى عمق عدد كبير من العواصم العربية وابرزها بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، وايضاً الى قلب غزة كقوة دعم مالي وعسكري لحماس.

تسببت هزيمة نظام صدام حسين عام 2003، والتي ساهمت بها انظمة عربية عديدة باهتزازات وتشققات للمجتمعات العربية الاخرى، فكانت احداث الربيع العربي، والتي حركت الشعوب للبحث عن مشاريع سياسية بديلة للانظمة القائمة، وبالتالي لتجاوز آثار الهزيمة في العراق وهزيمة حزيران 1967. لكن نتائج ثورات الربيع العربي قد شكلت حالة من الضعف العربي العام، والذي سارع لاستثماره كل من الولايات المتحدة واوروبا واسرائيل، لفرض حالة من التطبيع والاستسلام من منظور العلاقات العربية – الاسرائيلية، وبالتالي ترك الشعب الفلسطيني وحيداً، وفريسة الظلم الاسرائيلي، وفي ظل وجود سلطة متهالكة، بعدما فقدت كل ما بنته من احلام على اتفاقيات اوسلو، والتي اسقطتها الحكومات اليمينية الاسرائيلية الى غير رجعة.

 

وقف نتانياهو مساء السبت الماضي في وزارة الدفاع في تل ابيب والى جانبه وزير دفاعه يوآف غاليت ليعلن متباهياً رفضه المطلق لقيام دولة فلسطينية، ورفضه ايضاً للمشروع الاميركي بتسليم القطاع للسلطة الفلسطينية بعد انتهاء الحرب مع حماس.

ووصف نتانياهو الدعوة الاميركية لوضع القطاع تحت سيطرة السلطة، بعد اعادة تأهيلها، بأنه «وهم وخداع، ولا يمكن ان يستمر بين الاصدقاء»، واعتبرايضاً بأن اتفاقيات اوسلو شكلت «خطأً مميتاً»، وهذا ما برهنه وجود «دولة فلسطينية مصغرة» في غزة. واضاف نتانياهو: «انني فخور بأنني قد منعت قيام دولة فلسطينية، يدرك الآن ما كانت يعني لنا قيام دولة فلسطينية، بعد التجربة الاخيرة مع الدولة المصغرة في غزة».

وختم مؤتمره الصحافي بقوله:«لن اسمح لفتحستان بالحلول مكان حماستان».

تطرح اقوال نتانياهو هذه علامات استفهام كبرى حول الموقف الاميركي الذي يغطي عجزه عن تحقيق دعوته لتخفيف مستوى القصف الاسرائيلي ضد المدنيين في غزة، واستعماله حق النقض في مجلس الامن لمنع صدور قرار بوقف النار من خلال الوعد بوضع قطاع غزة تحت ادارة السلطة الفلسطينية، وبالعمل بجدية على احياء حل الدولتين. انه اقل ما يمكن توصيف الموقف الاميركي الراهن بأنه رياء سياسي ودبلوماسي لتغطية انحيازه الكامل للمنطق الاسرائيلي، في الوقت الذي يستمر فيه في جسره الجوي لتزويد الجيش الاسرائيلي بأقوى القنابل والصواريخ الموجودة في المخازن الاميركية.

يذكرنا ضعف الموقف الاميركي الراهن تجاه ما تفعله آلة الحرب الاسرائيلية في غزة، وما يصرح به نتانياهو ووزير دفاعه عن نيتهم في الاستمرار في هذه الجرائم التي يرتكبانها ضد المدنيين في غزة، بأن الادارة الاميركية «الديمقراطية» تتحضر لخوض الانتخابات الرئاسية والعامة في الخريف المقبل وهي غير راغبة، لا بل ساعية بكل ما تملكه من قدرات لإسترضاء حكومة اليمين الاسرائيلي والجماعات الصهيونية الداعمة لاسرائيل داخل الولايات المتحدة، والتي تملك القدرات الخارقة لجمع المال للمعركة الانتخابية التي يحتاجها المرشحون للانتخابات.

يبدو بوضوح بأن الرئيس بايدن يشعربحالة الضعف التي شعر بها قبله الرئيس باراك اوباما في مواجهته مع نتانياهو حول موضوع وقف الاستيطان في الضفة الغربية، والتي دفعت اوباما الى الانكفاء كلياً الى الوراء والانصياع لمشيئة نتانياهو، وغسل يديه نهائياً من كل مسؤوليات اميركا في رعاية عملية السلام، والاستمرار في جهودها لتحقيق حل الدولتين.

يرى زعماء اليمين الاسرائيلي وعلى رأسهم نتانياهو بأن اسرائيل هي في حالة حرب دائمة منذ انشائها عام 1948، حيث خاضت حرب1967 وحرب عام 1973، وحرب لبنان عام 1982، كما واجهت انتفاضتين عام 1987 و2000، بالاضافة لعدة حروب قصيرة مع حزب الله في لبنان وحماس في غزة. وكان هدف اعداء اسرائيل، تدميرها وازالتها من الوجود، ويعتبر هذا اليمين الاسرائيلي بأن الدول التي اعترفت باسرائيل ما زالت تتمنى لو ان اسرائيل لم تتواجد كدولة. ولا يعترف قادة اليمين الاسرائيلي بمسؤولية اسرائيل عن اندلاع اي من هذه الحروب، كما يتنكرون لمسؤوليتهم عن الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني نتيجة الاحتلال الصهيوني لأرضه، وانكار حقه بأن يكون له دولة مستقلة، وذلك بالرغم من التأييد الدولي الجامع لهذا الحق.

هل يدرك العرب الساعون للتطبيع والانفتاح على اسرائيل بالرغم من ظلمها للشعب الفلسطيني بأن القيادات اليمينية الاسرائيلية تحتفظ بعمق بمشاعر الشك الريبة في علاقاتها معهم، مهما حاولوا اظهار مشاعر التفاهم واقامة العلاقات الايجابية. وتؤكد مواقف القيادات الاسرائيلية من القيادات الاوروبية وايضاً الاميركية مدى الشك والريبة، وذلك من خلال التأكيد على حق اسرائيل المطلق لحماية امنها، دون الاخذ بعين الاعتبار مصالح هذه الدول الصديقة او الحليفة. وتعتبر القيادة الاسرائيلية هذه بأنها قد نجحت في استعمال الجاليات اليهودية في هذه الدول الغربية من اجل جمع الدعم لاسرائيل، وكبح اية معارضة للمصالح الاسرائيلية.

في النهاية في ظل استمرار الحرب في غزة على هذا المستوى من القتل والعنف ومع فشل زيارات المسؤولين الاميركيين المتكررة لاسرائيل في تخفيف نتائج الحرب الظالمة، فإن ما يقوله الرئيس بايدن، وما قالته نائبته كمالا هاريس في قمة المنامة في أبو ظبي بأن واشنطن تدعم حكم السلطة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، يبقى كلاماً فارغاً من أي مضمون، ويشكل كلاماً صالحاً لخدمة المصالح الانتخابية للرئيس ولحزبه.