IMLebanon

غزة: مرحلة جديدة والمفاجآت واردة

 

 

كان من المنطقي أن تُرخي أثقال ومخاطر الحرب الدائرة في غزة على اعمال السينودوس الذي عقد في الفاتيكان واختتم أمس بقدّاس ترأسه قداسة البابا فرنسيس، وشارك فيه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وبطاركة الشرق الكاثوليك وسفير لبنان فريد الخازن.
ومن الطبيعي أن يسود القلق من الحرب العنيفة الدائرة في غزة الى جانب التوترات والمخاطر الناتجة عنها، في وقت تستمر فيه الحرب في أوكرانيا.

وموقف الفاتيكان التقليدي والدائم هو بالدعوة لنبذ العنف واللجوء الى الحوار كسبيل وحيد لحل المشاكل والخلافات مهما بلغت تعقيداتها. ولا يتردد مسؤولو الفاتيكان في شَجب سقوط الضحايا البريئة، وخصوصا الأطفال منها، لأنّ الفاتيكان لا يفرّق بين تصنيفاتها أو هوياتها «فالقيمة الانسانية واحدة ولا تتجزأ». ولا يتردد مسؤولو الفاتيكان في التأكيد على استعداد الكرسي الرسولي للمساعدة في الجهود الآيلة لوقف جحيم الحرب وفق قدراته وإمكانياته.

 

وفي وقت سَعت فيه اسرائيل للتأثير على موقف الفاتيكان مع انطلاق عملية «طوفان الأقصى»، الا أنّ الكرسي الرسولي أبلغَ المعنيين بتمسّكه بمبدأ «شعبَين ودولتين» كحل وحيد وواقعي وقابل للتطبيق للمشكلة الفلسطينية الاسرائيلية.

لكن هنالك من يسعى لإحراج الفاتيكان بُغية دَفعه الى تعديل موقفه من خلال إثارة التمايز الديني. فكما جرى العمل على إثارة الحساسية الارثوذكسية – الكاثوليكية في أوكرانيا يجري العمل على إثارة الحساسية الكاثوليكية – اليهودية. وجاء ذلك إثر فشل الضغوط الاسرائيلية على الفاتيكان لأخذه الى صف الدعاية الاسرائيلية التي ارتكزت على المشاهد التي نتجت عن عملية «طوفان الأقصى». لكنّ الفاتيكان الذي يهمّه جداً الجانب الانساني بقي متمسّكاً بموقفه الداعي لحل الدولتين.
والقلق من طول الحرب في غزة والمجازر الحاصلة والتطورات التي تواكبها تُرخي بثقلها أيضاً على معظم العواصم الأوروبية. ففي شوارع العاصمة الايطالية تنتشر عند المفارق وفي الساحات قوات خاصة من الشرطة الايطالية لحماية الاعداد الكبيرة للسيّاح. ذلك أنه منذ اندلاع الحرب في غزة ارتفعت بنسبة كبيرة الاعتداءات ذات الطابع الديني والسياسي وهي بلغت ذروتها في لندن.
ذلك أنّ الدوائر السياسية لا ترى نهاية قريبة للحرب ولا حتى أي وقف لإطلاق النار، بل على العكس هناك تحضير لمراحل جديدة لا تقلّ خطورة عن تلك التي مرّت. ولأجل ذلك حرصت السلطات الايطالية للوقوف على تقييم اللواء عباس ابراهيم كونه مطّلع بشكل كبير على موقف «حزب الله».

والقلق من استمرار الحرب يُظهر بوضوح مع اعتذار أكثر من عاصمة عربية في التورّط بدور في ملف تبادل الأسرى بين حماس واسرائيل، خشية أن تنفّذ اسرائيل عملية خداع وتضليل. وبالتالي، تحميل أوزار ما قد يحدث للدولة الوسيطة. ذلك أن الانطباع العام هو بأنّ الحكومة الاسرائيلية تريد أثماناً ميدانية تؤدي الى إنهاء حركة حماس والقضاء على نفوذ ايران داخل الساحة الفلسطينية، والسعي لتثبيت حل الدولة اليهودية من خلال واقع ميداني جديد. فسياسة اليمين الاسرائيلي قائمة على أساس الدولة الواحدة وليس الدولتين، وبالتالي فإنّ اقتراح اعادة السلطة الفلسطينية الى غزة هو نقيض لهذه السياسة.

وفيما تعمل قيادة حماس على التلويح بورقة تبادل الأسرى لوقف الحرب، فإنّ الجيش الاسرائيلي يعمل في المقابل على اكتشاف نقاط الضعف العسكرية التي يمكن النفاد من خلالها لترسيخ معادلة ميدانية جديدة. لكنّ واشنطن تخشى من افتقار اسرائيل لأهداف عسكرية قابلة للتحقيق ما جعلَ القيادة العسكرية الاميركية تخرج باستنتاج بأنّ الجيش الإسرائيلي ليس مُستعداً بعد للتوغّل البري.
ووفق أوساط مطلعة فإنّ عملية جس النبض العسكري الاولى التي نفذها الجيش الاسرائيلي لاختبار جهوزية حماس أظهَرت نتائج غير مشجعة له. وحتى عملية الاختبار الثانية أظهرت نتائج سلبية أيضاً رغم انها جاءت أفضل عموماً من الاختبار الأول.

لذلك اقترحت واشنطن، واستناداً الى خبرتها الحربية خصوصاً في العراق، الى استبدال التوغل البري بعمليات تطال أهدافاً مُنتقاة بعناية وتكون بمثابة المفاصل الأساسية التي تقف عليها حماس. وهي لذلك عمدت الى عدة خطوات، حيث أرسلت فرقة «الدلتا» المتخصصة بتحرير الرهائن اضافة الى ذخائر وقنابل ذكية متطورة مخصصة لاختراق الأعماق، الى جانب متخصصين في استخدام غاز الأعصاب لشل حركة المجموعات القتالية الأخرى. ولذلك، يستعد البيت الأبيض للاعلان عن دعم مالي كبير جديد لإسرائيل يُناهز الـ 14 مليار دولار.

وتعوّل واشنطن على تعديل موقف الحكومة الإسرائيلية من التوغل البري وتأييد 49 % من الاسرائيليين تأجيل العملية البرية لصالح التفاوض حول اطلاق الأسرى. لكن النسبة المتدنية لنتنياهو والحكومة تدفع بهما الى خيار المخاطرة به. ففي آخر استطلاع لمعهد الديمقراطية الاسرائيلي نال نتنياهو نسبة 22 % أما الحكومة فنالت 14 % فقط. وهو ما يعني فقدان الثقة بالكامل في وقت يسود فيه شعور الخطر «الوجودي» بين الاسرائيليين.

في المقابل، تعمل ايران على التلويح بفتح الجبهات الاخرى لتجميد التوغل البري. فهي تدرك أن الحرب الاقليمية هي آخر ما يريده جو بايدن في عام انتخابي. لكنها تدرك أيضا أنه لا يجب تجاوز حد معين، وبالتالي تكرار خطأ حماس في «طوفان الأقصى» بحيث تصبح المسألة بَدل حشر الادارة الاميركية، مسألة الأمن الحيوي الاميركي. أضف الى ذلك، الضغوط الداخلية التي يتعرض لها البيت الابيض من صقور الكونغرس الذين يدفعون باتجاه الحسم العسكري ضد حماس ورفض القبول بأي هدنة أو وقف لإطلاق النار.

وقرأت الاوساط المتابعة باستهداف سيناء بصواريخ حوثية سعياً لتوسيع دائرة الحرب، خصوصا وسط مطالبة حماس المُلحّة بذلك، والتي عبّرت عنه بشتى الاساليب إن باتجاه «حزب الله» او حتى باتجاه الحوثيين وايران.

لكنّ استهداف القواعد الأميركية بقي تحت سقف محدد ومدروس وبوتيرة محدودة وعبر انواع مسيرات غير متطورة وهو ما يؤدي الى اضرار محدودة جدا. وجاءت الغارة الأميركية على مواقع الحرس الثوري شرق سوريا لتؤكد وجوب عدم التمادي، ذلك أن السنة الانتخابية الاميركية لا تحتمل سقوط اصابات كبيرة للجيش الاميركي، وبالتالي فإنّ اللعبة خطيرة. ولهذا السبب نشر البنتاغون حوالى 900 جندي جديد في الشرق الاوسط متخصّصين في عمل بطاريات الدفاع الجوي للارتفاعات الشاهقة (ثاد) وبطاريات باتريوت. فهامش الخطأ ضيق جدا.
وهو ما يعني استطراداً أنه وبعد ثلاثة اسابيع على بدء الحرب، دخلت المنطقة في مرحلة جديدة يقف فيها الجميع على حافة الهاوية تحسّباً لتطورات أخطر.

ولأن المخاطر مرتفعة والمفاجآت واردة، باشرت واشنطن معالجة النقص الاستراتيجي في مخازن الذخائر والاسلحة بعدما أدّت حربا أوكرانيا وغزة لاستهلاك الكثير منها. لا بل طلبت واشنطن من حلفائها الاوروبيين العمل مثلها على زيادة انتاج مخزون الذخائر ورفع مستوى انتاج المصانع الحربية. ذلك أن القيادة العسكرية الأميركية تحسب لاحتمالات اتساع رقعة المواجهات خصوصا اذا تدحرج الوضع ودخل «حزب الله» الحرب.

كما أن واشنطن تضع دائماً في حساباتها التحوّط من احتمال نشوب حرب في شرق آسيا، ولو ان احتمالاتها ضعيفة جداً لكن لا بد من وضعها في الحسبان.
وهنا لا بد أيضا من الاشارة الى الاستنتاجات التي تخرج بها دوائر انتاج الاسلحة حول فعلية الاسلحة الجديدة، والتي يجري اختبارها في أوكرانيا وغزة.

وفي الوقت الذي تعمل فيه الدوائر المختصة «للاستفادة» من الميدان، تسعى روسيا لتحسين مواقعها في أوكرانيا وفي الوقت نفسه تراقب بانزعاج الترتيبات القائمة لإنجاز سلام سريع بين أرمينيا وأذربيجان، والذي تدفع به تركيا. ودمشق أيضا تريد استغلال الفرصة لتحقيق تقدّم ميداني في ادلب، وهو ما لم توافق عليه موسكو لعدة اسباب. أما في الجنوب السوري فهناك مسارعة لتثبيت وتكريس صيغة الادارة الذاتية من خلال استمرار الاحتجاجات ومشاركة وفد من درعا للمرة الأولى.
وهو ما يعني أن غزة تدفع باتجاه تثبيت وقائع جديدة من خلال استغلال الظرف. أما في لبنان فالطبقة السياسية نفسها لا تنتج سوى تعميق الأزمات، بسبب سلوكها القائم على أولوية المصالح الذاتية والشخصية لا المصلحة العامة.

وتسخر أوساط ديبلوماسية في الفاتيكان من هذا السلوك اللبناني المعيب، والذي يؤدي دائماً الى التدمير الذاتي. فبدل تحصين الذات بتأمين الحماية السياسية للمؤسسة العسكرية نرى تهافتاً على تفسيخها من الداخل فقط لغايات شخصية وذاتية أدّت طوال المراحل الماضية الى ضرب مؤسسات الدولة وتدميرها، ورغم ذلك لم يتّعِظ أحد.