IMLebanon

إعادة تشكيل المنطقة على نار غزة

 

 

في الوقت الذي كانت فيه القوات الإسرائيلية تعمد إلى تكثيف هجماتها باتجاه مجمع الشفاء في غزة، كان المجتمعون في العاصمة السعودية في إطار القمتين العربية والإسلامية الاستثنائيتين يُصدرون بيانهم الختامي، والذي جاءت بنوده ما دون المستوى المطلوب. والواضح أنّ تفاوتاً في وجهات النظر بين زعماء الدول المشاركة لا بل يمكن وصفها بالخلافات، أدّت الى دمج القمتين اللتين كان من المفترض أن تكونا منفصلتين في الأساس.

وجاء الدمج بطلب من العديد من وزراء خارجية الدول المشاركة، بعدما تبين عدم وجود توافق حول قرارات طابعها تنفيذي وعملي لمعاقبة اسرائيل.

هذا وعلى الرغم من أنّ القيادة الفلسطينية كانت تصرّ على قمّتين منفصلتين كتعبير عن اهتمام أكبر بما يجري في غزة، وللخروج بتوصيات عملية.

 

لكن الحسابات متشعبة والقلق من الأفخاخ الاسرائيلية دفع ببعض الدول الى أخذ جانب الحذر المشوب بالريبة، وأغلب الظن بالحسابات المستقبلية لمرحلة ما بعد الحرب.

 

ومن البنود التي طُرحت وجرى وضعها جانباً، إغلاق الأجواء أمام الملاحة الاسرائيلية، وأيضاً منع الولايات المتحده الاميركية من استخدام قواعدها العسكرية لتزويد اسرائيل بالسلاح والذخائر، وقطع العلاقات الديبلوماسية مع اسرائيل…

 

لكن كل هذه الاقتراحات سقطت لسبب أو لآخر. ولكن قد تكون هذه القمة العربية – الإسلامية نجحت في تأمين مجرد انعقادها، إذ أنّه بات إنجازاً إمكانية جمع هذه الدول تحت سقف واحد وإصدار بيان ختامي موحّد، وهو ما كان ممكناً أن يحصل لولا الجهود المباشرة التي قام بها شخصياً ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

 

فالقاعة جمعت دولاً من أقصى اليمين أو تلك التي تُعتبر الأكثر تشدّداً مثل إيران وتركيا وقطر، الى أقصى اليسار أو تلك التي تُعتبر مرنة وما بينهما. وإذا كانت الدول المتشدّدة أخذت على الفريق الثاني تساهله واعتماد مرونة ليست بمكانها، فإنّ الدول التي تصف نفسها بالمعتدلة أخذت على منظّمي هذه القمة بأنّهم أمّنوا منبراً كبيراً سمح لهؤلاء الزعماء بإطلاق مزايدات لمأساة يقع على عاتقهم جزء من مسؤولية حصولها.

لكن في المحصّلة صدر البيان الختامي وعاد كل زعيم الى بلاده واستمرت المأساة خصوصاً حول مجمّع الشفاء.

 

وللواقعية، فإنّ الزعماء المشاركين يدركون ضمناً بأنّ أوان الحلول لم ينضج بعد، وهو قد يكون بحاجة لأسابيع إضافية بهدف تأمين الوقت اللازم لتوجيه الضربة القاضية لـ»حماس». ذلك أنّ هنالك تقاطعاً إسرائيلياً- أميركياً حول هذا الهدف، إضافة الى موافقة ضمنية من معظم زعماء الدول المشاركين في قمة الرياض. عندها تصبح الأجواء «ناضجة» باتجاه الذهاب الى بنود سياسية وعملية تشكّل المنطلق لتسوية سياسية، ومنطلقاً لحل النزاع الفلسطيني- الاسرائيلي.

 

والواضح أنّ القنوات الديبلوماسية الخلفية والسرّية تعمل بنشاط تحضيراً لذلك، وهو ما يفسّر الزيارات المتلاحقة لوزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن الى عواصم المنطقة المعنية.

 

لأجل ذلك تبدو مصر وكذلك الأردن الأكثر تحسساً من الحلول الجاري طرحها. فهما لا يريدان الوقوع في فخ إنجاز حلول على حساب استقرارهما الداخلي، وسط «الشهية» المفتوحة للحكومة الاسرائيلية لتحقيق «ترانسفير» فلسطيني كامل تمهيداً لتأكيد يهودية الدولة على كامل الاراضي الفلسطينية.

وقد يكون لاعتبار عدم نضوج «طبخة» التسوية أيضاً، أنّه يجب إجتياز حاجز الانتخابات المصرية بعد حوالى شهر، كي يصبح الرئيس المصري محّرراً وقادراً على اتخاذ القرارات المطلوبة ، خصوصاً أنّ لمصر دوراً اساسياً في ترتيب المرحلة المقبلة.

 

ولكن من الخطأ الغرق في البركان المشتعل في غزة من دون الالتفات الى الإشارات المعبّرة التي تحصل على المستوى الدولي. ففيما يسعى الجيش الاسرائيلي الى الوصول الى سطح مجمع الشفاء والتقاط صورة لرفع العلم الاسرائيلي عليه لتصويره بمثابة «انتصار» حربي، يستعد الرئيس الأميركي لقمّة تجمعه بنظيره الصيني. وهذا الأخير لم يبد ردود فعل بحجم ما يحصل في غزة، على الرغم من أنّ حركة «حماس» تنتمي الى محور متحالف الى حدّ بعيد مع الصين، وحيث التحضيرات جارية لإعادة تشكيل خارطة النفوذ السياسي في المنطقة.

 

كذلك، فإنّ روسيا التي دعت بوضوح إلى عدم توسيع دائرة الحرب في المنطقة (والمقصود هنا دول متحالفة معها مثل إيران) وهو ما يتوافق مع مطلب واشنطن، فهي بدت أكثر هدوءاً إزاء حربها المفتوحة في أوكرانيا. ذلك أنّ جبهات القتال الاوكرانية سجّلت تراجعاً ملحوظاً في حدّة الهجمات، في وقت بدأت فيه بعض الأوساط الغربية تهمس عن أنّ الأوان قد آن لطي ملف الحرب الأوكرانية، والذهاب الى تسوية سياسية تعطي روسيا حق السيطرة على المناطق التي احتلتها شرقي أوكرانيا.

 

وهو ما يعني أنّ الظروف الدولية باتت تسمح لواشنطن بولوج ملف التسويات في الشرق الاوسط. ولكن ما ينقص هي الترتيبات الميدانية، وهو ما تحدث عنه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله في إطلالته الأخيرة، حين قال إنّ الكلمة للميدان. وهو قد يكون بذلك يوحي بوجود مفاجآت ميدانية في غزة ستفاجئ الوحدات الإسرائيلية وستمنع عليهم تحقيق هدفهم المتمثل بالقضاء على التركيبة العسكرية لحركة «حماس».

 

وخلافاً للإعتقاد السائد ، فإنّه كلما تقدّم بنا الوقت في مسار الحرب كلما ابتعدنا أكثر عن خطر الحرب الشاملة. وكان لافتاً أنّ أمين عام «حزب الله»، والذي استعرض «ساحات الدعم» لحرب غزة، لم يتطرّق الى عبارة وحدة الساحات، والمعروف عن السيد نصر الله انتقاءه بعناية لعباراته.

 

وخلال الزيارة الأخيرة للمفاوض الأميركي آموس هوكشتين، سمع المسؤولون اللبنانيون الذين التقوه تحذيراً حيال التنظيمات الفلسطينية التي تتحرّك في جنوب لبنان وتقصف اسرائيل، ومذكّراً بالقرار 1701، لكنه لم يُشر في هذا المجال الى «حزب الله»، لا بل فهو تحدث عن الخطاب المسؤول لنصر الله (والمقصود هنا الخطاب الأول) ووصفه بالواقعي.

لكن اسرائيل استبقت الخطاب الأخير لأمين عام «حزب الله» بأن نفّذت غارة للمرة الأولى منذ تثبيت قواعد الاشتباك في عمق يبلغ حوالى 40 كلم داخل الاراضي اللبنانية.

 

الانطباع العام بأنّ هنالك فريقاً يمينياً متطّرفاً يريد ويسعى لجرّ «حزب الله» الى الانزلاق الى الحرب، لاعتقاده من جهة بأنّه يمكن الاستفادة عسكرياً من وجود الترسانة الحربية الأميركية في المنطقة، ومن جهة أخرى أنّ ذلك يمكن أن يخفف من السخط الاسرائيلي الداخلي وغضب الحساب الشعبي الذي سينفجر بعد إقفال الحرب أوزارها. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير استهداف السيارة المدنية، والتي استشهد بداخلها ثلاث فتيات وجدتهن. لكن الواضح أنّ «حزب الله» الذي يخوض معارك محدودة مع الاسرائيليين يزين خطواته الحربية بشكل دقيق.

 

وهذا ما فتح باب الإجتهاد لدى البعض من خلال استذكار مرحلة العام 1990، يوم شاركت سوريا في التحالف العسكري الدولي لتحرير العراق، ونالت إثر ذلك حق إدارة الوضع اللبناني بشكل مباشر. لكن ثمة فوارق أساسية وعديدة بين عامي 1990 و2023. أضف الى ذلك، أنّ هنالك طرفاً إقليمياً اساسياً كبيراً اسمه إيران، وهنالك خارطة واسعة وحسابات أكثر تشعباً وتعقيداً. ولذلك، وعلى الرغم من هجمات حلفاء إيران على السعودية ودورها في هذه المرحلة ، حرص الرئيس الإيراني على المشاركة في قمّة الرياض، كما حرص الأمير محمد بن سلمان على عقد خلوة معه. الاستنتاج واضح، وهو أنّ الأفق مفتوح على إعادة ترتيب كامل المنطقة، وهو ما يستوجب تحضير القاعات للتفاهمات لا المحاور للصراعات.

 

الواضح أنّ إعادة تشكيل المنطقة سيحصل على الساخن، بعدما راهن البعض على حصوله على البارد. والتسوية اللبنانية ستكون بنداً من بنود التسويات الاقليمية الكبرى.