IMLebanon

غالب غانم: ملف سيّدة النجاة “مُفبرك” والعدالة في تفجير المرفأ في ذهول 

“السياسي ليس أقوى من القاضي… ولا أحد معصوم عن الخطأ”

 

تكاد لا تفارق الإبتسامة الأنيقة محياه. يتأنى في اختيار مفرداته ويتوقف عن الكلام في كلِ مرة يشعر فيها بأنه لامس خطاً أحمر عملاً بمقولة: ما قلّ ودلّ. لكنه، بين خطٍّ أخضر وآخر أحمر، يتفوه بحقائق تستحقّ أن تبقى للتاريخ. غالب غانم، النازل من بسكنتا إلى بيروت لأولِ مرّة بعمر الثانية عشرة، يأبى بعمرٍ تجاوز الثمانين أن يستريح. ومطرقة العدالة على مكتبه شاهدة. نسمعه يتحدث عن عمر السعادة بين أهله وعن عمر التحديات في القضاء وعن عمر الصفاء والضوضاء في كلِ المراحل. هو قاضٍ ممتاز دقّ قلبه كثيراً لعشرات الحقائق التي لم تصل كلها إلى برّ الأمان. راقب تفجير كنيسة سيدة النجاة وقال عنها كلمة للتاريخ: قضية مفبركة. وتشلع قلبه لتفجير مرفأ بيروت ويقول عنه: يا له من ملفٍ يجعل العدالة في ذهول. حوارٌ معه عن البدايات والتحديات والقضاء «المسرسب» والقضاء «المنفتح» والشعر والأدب ونظافة الكفّ. هو القاضي الخشن والليّن. فماذا بين وبين؟تتكدس على مكتبه عشرات الملفات التي يعمل عليها ويعطي إستشارات بها. يستقبلنا بابتسامته المعهودة. يضع هاتفه في وضع السكون ويبدأ في استعادة التاريخ في بسكنتا وهو الخارج من بيت الأدب والشعر: «ولدت في بسكنتا، في بيتنا، على يد «داية» في العام 1943. كنا عشرة أولاد. مات اثنان باكراً وكبرنا ثمانية معاً، سبعة صبيان وفتاة واحدة. وأنا الرقم 7 بين الأولاد. أحب هذا الرقم 7 الذي له، في القاموس دلالات، في الأديان والاساطير والحياة اليومية».

7 علامة إنتصار، فكم حياته تشبه رقم 7؟ يجيب: «أتصوّر أن الحياة اعطتني الكثير وأنا اعطيتها أيضا الكثير. وأنا راض بما فعلت لكن ليس رضى كلياً. لديّ تحفظات بالنسبة إلى المجتمع والسياسة. لكن وجودي في كنف عائلة فيها حبّ كثير وعطاء كثير جعلني رابحاً. لم أتكّل على أحد في مشوار الحياة. تابعتُ مسيرتي وحدي وأتصوّر أن ما بلغته بمثابة قدرة إلهية، من ربّنا. أسستُ عائلة جميلة وربيّت ولديّ: وسيم وزياد على نفس مبادئي ووسيم يربي غالب الصغير ومارك».

صورة غالب الصغير مع غالب الكبير على مكتب القاضي. سعيدين جداً يبدوان. هو لا يمكنه أن يصف مشاعره حين يكون مع الصغيرين غالب ومارك «أعشقهما. هما صديقان لي. نتسلى كثيرا معاً وكم أتمنى أن يغادرا لبنان ويؤسسا مستقبلهما بعيدا عن كل الجلبة في الوطن». يقول ذلك بمرارة وهو المدرك أن المستقبل القريب هنا غير مطمئن». هم حرصوا على أن تعطى للأولاد والأحفاد أسماء غير طائفية.

 

 

عبدالله ويمامة

نعود معه الى بسكنتا، الى الوالد عبدالله، الأديب، والوالدة يمامة التي كانت «قصّة كبيرة» متذوقة للشعر وباعثة الأمل في رئات أهل البيت «أعتبر طفولتي مرحلة السعادة في حياتي. درست في الثانوية ثم في مدرسة الفرير بسكنتا ثم نزلنا، وكان عمري إثني عشر عاماً، لأول مرة الى بيروت. نزلنا في بوسطة. هذه كانت مرحلة السعادة المطلقة التي فيها أطيب الذكريات حيث لا زعل ولا زغل والإبتسامة كانت تخرج من القلب. ويوم وطأت قدمي أرض بيروت شعرتُ وكأنني وطأت القمر. بحر بيروت «شغلة كبيرة».

غادر بسكنتا لكنه لم ينقطع عنها يوماً «والدي كتب قصائد كثيرة غناها كبار المطربين والمطربات في لبنان والعالم العربي مثل فيروز. هي غنّت قصيدة والدي: دقت على قلبي وقالت لي افتحو، تاشوف قلبي إن كان بعدو مطرحو، وإن صح ظني وشفتلو عندك رفاق، بسترجعه وما بعود خليك تلمحه». غنّت فيروز 12 أغنية لوالده لكن وحدها هذه الأغنية سُجلت ولها قصة: «كنا نسمعها تخرج من المذياع فنهرع الى دارنا ونخبر عن ذلك. كتبها عبدالله غانم، والدي، لوالدتي يمامة. كان يسميها في قصائده ميّ التي حرقت قلبه لشدة ما أحبها. لم تكن تعيش في الصين بل على بعد أمتار منه، وشباكها على شباكه، وتعلق بها كثيراً وهي أيضا تعلقت به بجوارحها. ولهذه القصيدة حكاية: عرفت والدتي من إحدى النسوة أن والدي رأى قريبة له مع ابنتها الجميلة فركضت إليه يمامة وقالت وهي تدق على صدرها. وهكذا ولدت القصيدة. لاحقا، أخبرتُ الأخوين رحباني عن القصة فقالا لي: فلنبقها في الغيب. فضّلا ذلك. (يضحك ويتابع): هناك من قال إن عبدالله هو أوّل من أجرى عملية قلب مفتوح وهذا ما قاله نقيب أطباء لبنان السابق شرف أبو شرف لطلابه: الشاعر عبدالله غانم فتح أول قلب في الشعر».

يتكلم غالب غانم عن عائلته بكثير من الحبّ: «الوالد لم يفرض علينا شيئاً إلا محبته وشخصيته الجميلة. أحبّنا كثيراً وأحبّ يمامة كثيراً كثيراً وإلا لما أنجب عشرة اولاد. والدتي أرادت أن تكتفي بثلاثة لكن والدي استعان بجدتي، والدته، لإقناعها بالمزيد. وهذا ما كان بعدما قالت لها: هي المرة الأولى أرى فيها ان امرأة تحمل بصبيان تتوقف عن الإنجاب. أخي الكبير الشاعر جورج غانم توفي باكراً عام 1992. وكلنا استهوانا الشعر واللغة».

 

أدب ومحاماة

كيف لفتى كبر في ظلِّ جمالية اللغة وعشق الأدب والشعر أن يقتحم عالم المحاماة والقضاء؟ يجيب: «درست الأدب العربي والمحاماة. أنا أصبحت قاضياً وشقيقي رفيق أصبح محامياً مارس المهنة أما شقيقي الثالث فدرس المحاماة ولم يمارس المهنة. وأنا، بعكس كل الآخرين، كنت بارعاً في المواد العلمية والحساب. ورغب والدي أن أصبح طبيباً. سجلني في مدرسة الحكمة عام 1959 وهي السنة التي توفي فيها. لكن، لم يكن هناك مطارح في القسم العلمي فدخلت القسم الأدبي مع وعد بأن انتقل لاحقاً الى القسم العلمي. احببت أجواء صف الفلسفة وكان أستاذي بطرس البستاني، ربّ الأدب، وحسيب عبد الساتر وعبدو الشمالي. لاحقاً، طلبا مني الإنتقال الى الصف العلمي لكني رفضت. مكثت شهراً واحداً بعت بعده كتبي العلمية وعدتُ وغصت في الأدب والفلسفة. أردتُ أن أصبح محامياً لا قاضياً ولذلك سبب: إعتبرتُ أن المحامي يبقى حراً أما القاضي فلا يتقيد بأحد. أردتُ إمتهان مهنة فيها حرية. تدرجتُ في مكتب كبار المحامين عبدالله لحود وكان اديباً أيضاً. وفتحت مكتبي الخاص. لكنني أيقنت لاحقاً أن المحامي يتقيد أحيانا بإرادة زبائنه بينما القاضي لا يتقيد بأحد. كان معهد القضاء مقفلاً وحين فُتح دخلت عليه بإصرار من والدتي وتشجيع منها. جربت عام 1972 ونجحت. كنا في المعهد ثلاثين طالباً وكان رالف رياشي وشكري صادر وجورج كرم وسامي منصور من زملائي وأصبحوا قضاة كباراً».

 

مدرستان

كانت تلك الايام جميلة «كانت هناك بيننا حياة وفرح إشتغلنا كثيراً، درسنا كثيراً وضحكنا كثيراً ولم نكن «مسرسبين» وهذه ميزة أساسية في دفعتنا. وثقنا بوجوب أن تكون شخصية القاضي قوية وأن يعيش مثل بقية الناس ويرى كل الناس وأن يعود في الآخر الى ضميره وعلمه وقلمة وأحكامه. حين دخلنا كانت هناك مدرستان. مدرسة السرسبة وتضم القضاة الذين سبقونا ومدرسة الإنفتاح التي مارسناها نحن. الإنفتاح كان يعني بالنسبة إلينا أن لا نخاف من الناس والمجتمع بل من ضميرنا فقط، هذا لا يعني طبعاً أن نزيل كل المسافة مع الآخرين، لكن أن نكون موضوعيين ومتجردين وأمناء. آمنا بالمسافة في القانون التي تكلم عنها سقراط لا المسافة التي تكتنف كثيراً من السرسبة. ويستطرد هنا بابتسامة عميقة: هل تتخيلين أن يقال: رأينا غالب غانم على الشاطئ؟ ماذا يعني ذلك؟ هل ممنوع أن يسبح القاضي؟ يا لطيف. أنا أسبح حتى لو لم أكن بارعاً كثيراً في السباحة (يضحك مجدداً). رئيس المعهد القضائي أيامنا كان سليم الجاهل رحمه الله وكان من المدرسة المنفتحة. أكنّ له كل احترام ومحبة. أيقنّا معه أن القاضي يمكن أن يكون «مضبضباً» فوق العادة ولا يفتح بابه لأحد ويبيع ضميره سراً».

أصبح غالب غانم عام 1975 قاضياً «منفتحاً»: «وأوّل صدمة واجهناها يوم تخرجنا من المعهد القضائي أن مرسومنا لم يوقّع فأصبحنا قضاة مكتوفي الأيدي. وزعونا على دوائر وزارة العدل. وما عانيناه كان سبباً لتعديل القانون العدلي لاحقا فأصبح من يتخرج ولا يوقّع مرسومه في خلال شهر أو خمسين يوماً يعتبر قاضياً أصيلاً من دون تشكيل. الصدمة الثانية تجلت في بداية الحرب في لبنان. يومها كنت مسافراً في فرنسا في بعثة بعدما كنت في خلال أعوام دراستي في المعهد متفوقاً major de promotion. أرسلوني الى فرنسا لمخالطة المحاكم الفرنسية ثلاثة أشهر لكن الحرب أبقتني هناك نحو سنتين. وفي العام 1977 إتصل بي شقيقي قائلاً: عدّ الى لبنان الجديد. توقعنا أن لبنان عاد الى نفسه. عدت لكن الصدمات ظلت تلاحقني حيث لم تجر التشكيلات القضائية حتى العام 1981. وقعها الياس سركيس وهو ذاهب الى المطار. توزعنا وبدأت مسيرتي المهنية الفعلية. عينت رئيس محكمة جونية – قاضٍ منفرد – حتى العام 1990. وبعد الطائف سمعنا أن البلد «ريّش» من جديد. عينت رئيس محكمة البداية».

 

سيدة النجاة

هل كان في العام 1994 يوم فجرّت كنيسة سيدة النجاة رئيس محكمة جونية؟ يجيب: «كنت قد انتقلت للتوّ الى بيروت». هل تابع الملف؟ «أكيد ورأيته مفبركاً». هل تعرّف عن كثب على القاضي في ملف الكنيسة فيليب خيرالله؟ أكيد. تعاونت معه عندما عُينت عضواً في مجلس القضاء الاعلى عام 1992 وتجددت ولايتي حتى عام 1999 يوم أصبحت مدعي عام جبل لبنان. كان قاضياً ممتازاً لكن القضية مفبركة». نطلب إيضاحات اكثر لكنه يصرّ على الإكتفاء بما قال مضيفاً:» يجوز أن يكون الملف قد رُكّب بغفلة منه. كله ممكن. التفاصيل ليست معي لكنها قضية مفبركة».

نحترم إرادته ونتجاوز فعل الفبركة ونتابع الإصغاء إليه: «في مرحلة معينة لسببٍ طائفي لم يعد يعمل المجلس العدلي واصبح شكلياً. طبعاً هذا ضدّ مفهوم العدالة وحقوق الضحايا وأهلهم».

سؤالٌ بديهي طرحناه: من خلال تجربة القاضي غالب غانم، هل السياسي في لبنان اقوى من رجل القضاء؟ يجيب: «لا، القاضي أقوى بكثير شرط أن يعرف كيف يستخدم الصلاحيات التي بين يديه» ويستطرد: «كل واحد له عمل مختلف، وكأنك تسألين من الأقوى: صناعي الأخشاب أم صناعي المواد الغذائية. ما يهم أن يعمل كل طرف في مجاله».

كلام جميل، لكن هل يُطبق واقعياً؟ هذه مشكلتنا. لهذا سألنا الريّس غانم مجدداً: «ماذا لو لم يسمح صناعيو الأخشاب لصانعي المواد الغذائية بالعمل؟ يجيب: «صحيح، هناك إحتكاك لجهة تعيين القضاة وتشكيل القضاء له علاقة في السياسة يجب علينا التخلص من ذلك. لكن، بصدقٍ، القاضي يبقى أقوى من السياسي، فهو يُحاكم عند القاضي، إلا إذا طرأ على بال الحكومة أن غالب غانم، على سبيل المثال طبعاً، آدمي ونزيه ولا يردّ على أحد «فشيلوه». هذه ليست قوّة بل استخدام صلاحيات ليست في مكانها. وعلى القضاء ألا يسمح بهذا الإستقواء. وهذا الواقع طبقته أنا».

 

11من 12

إستلم رئاسة مجلس شورى الدولة نحو ثمانية أعوام ونصف، ورئاسة مجلس القضاء الأعلى 25 شهراً. ويقول: «منذ دخولي معهد القضاء كان رفاقي يقولون لي: الرئيس الأوّل (يضحك لذلك) ويتابع: حين استلمت مجلس الشورى فصلته كلياً عن السياسة وفرضنا احترامنا والقضاة زادت إنتاجيتهم. ويستطرد: في كل مكان حللت فيه أحدثت تغييراً لا ركوداً. وأتذكر أنه قبل أعوام من تعييني رئيس مجلس القضاء الأعلى إتصل بي سمير الجسر، هو صديقي وكان وزيراً للعدل، قال لي: التقيت الرئيس إميل لحود ورئيس الحكومة رفيق الحريري في القصر الجمهوري واتفقا على تعيينك رئيس مجلس القضاء الأعلى. أجبته: أشكركم لكني لا أريد. ردّ: له له له إنها المرة الأولى التي يتفقان فيها على أحد. اصرّ فوافقت. بعد أيام قال لي: ما مشي الحال لأنهما لم يتفقا على إسم بديل عني لرئاسة مجلس الشورى. بعد أعوام عدنا الى النقطة ذاتها وكان رئيس الجمهورية ميشال سليمان ووزير العدل إبراهيم نجار، وهو صديق قديم وعائلي لي. أتذكر أنني كنت حين أرى إبراهيم في مكان أجلس في مكان آخر كي لا يظن أنني أريد شيئاً منه. ومرة سألني عن سبب ما أقوم به. (يضحك القاضي لذلك). ويستطرد: قال لي الرئيس سليمان: سألت 12 شخصاً: من هو برأيكم أفضل من يستلم رئاسة مجلس القضاء الأعلى فردّ 11 منهم: غالب غانم. قلت له: ومن هو رقم 12؟ أجابني: لن أقول لك الإسم لكنه علل ذلك بأنك لست ليناً ولا تأخذ وتعطي. أجبته: هذه شهادة لي. عُينت. بعدها أصبحت مدعي عام جبل لبنان ويومها قال لي وزير العدل آنذاك جوزف شاوول: نتمسك بك لأنك تقول لا».

 

عبود ممتاز

نسمع نفرح نرى نحزن. هذه حالنا نحن مع القضاء خصوصاً ونحن نرى ماذا يحدث في مجلس القضاء الأعلى والخلافات بين وزارة العدل وقصر العدل و… يجيب غانم: «إسمحي لي بأن أقول أن سهيل عبود ممتاز ورائع ومستقلّ لكن الظروف عاكسته في البلد. هنري خوري، وزير العدل، حين انظر إليه كقاض أعرف أن لا غبار عليه. حافظ على مركزه، أما في السياسة فهو مرتبط بطرف معين».

أليس هذا هو بيت القصيد، حيث تصبح السياسة اقوى حين يسمي طرف سياسي قاضياً في مركز سياسي؟ يجيب: «هناك بلا شك إشكاليات في نظامنا».

ننتقل الى بيروت التي عشق بحرها القاضي غالب: فكيف قرأ ملف تفجير مرفأ بيروت وما تلاه من تداعيات؟ يجيب: «بيروت هي لي بسكنتا الثانية. وكل ما يمكنني أن أقوله هو ان العدالة، في هذا الموضوع، في ذهول، في ضياع، وذلك من دون الدخول في التفاصيل. ويستطرد: لا أقصد أن من تمّ الإدعاء عليهم، ونُسبت إليهم تهم، مجرمون. أعرف أن هناك من سيخرجون من الملف، ممن تم الإدعاء عليهم، أبرياء. لكن، المسار الذي اكتنفه الملف «مخربط» داخل العدلية وخارجها لأن الدولة عاجزة. حين تحمل الدولة مطرقة وتضرب بقوة على شيء ما، مهما كانت قوته، ولو بصلابة حجر الصوان، يتفتت. السنديانة تقاوم. حجر الصوان يقاوم. لكن، من كثرة الضرب، قد يتشظيان. هناك مسؤولية على الدولة كنظام حكم في ما يحصل لا على القضاء أما الآثار التي نتجت في العدلية فلا تُشرّف القضاء».

 

الأداء واحد

تنقّل القاضي غالب غانم في مواقع عدّة فأيها أحبّ إليه؟ يجيب: «من دون أن اتواضع أو أبالغ شعرتُ ان غالب غانم في كلِها إستمرّ نفسه. حاولت دائما أن امارس المسؤولية كما يجب. كبُرت المسؤوليات لكن الأداء إستمرّ واحداً».

هل ندم على قرارٍ إتخذه؟ يجيب: «أعتقد أن لا أحد لا يُخطئ. القاضي ليس إلهاً. فهل يعقل ألّا أكون قد أخطأت مرة في مسيرة تزيد عن أربعين عاماً؟ كلنا نُخطئ في مكانٍ ما شرط أن لا يكون الخطأ مقصوداً، وأن يكون الخطأ شواذاً لا قاعدة، وأن تكون نتائجه طفيفة. لو كان القاضي لا يُخطئ لما كانت المحاكمة درجات: بداية واستئناف وتمييز. الخطأ ممكن لكن إذا كان مقصوداً فمعناه خرب البلد».

علّم غانم في معهد القضاء مادة أساسية هي الأخلاقيات القضائية ويقول: «نعلّمهم الأخلاقيات ونشدّ على أيديهم لتطبيقها. وأعتقد أن الأخلاقيات تولد مع القاضي ولها أصول. فليس جميلاً رؤية قاضٍ سكيراً لأن العدالة تصبح سكرانة».

هل كان القاضي طارق بيطار (قاضي التحقيق قي قضية تفجير مرفأ بيروت) من تلاميذ القاضي غانم؟ يجيب: «لا، لكنني أقدّر أن الملف كان حملاً كبيراً على منكبيه. أقول له «كتر خيرك» أنك حملت هذا الملف لكن، بالنسبة للأداء، لن أقول شيئاً، ليس لأنني غير مقتنع بل لأن الملف ليس أمامي. لكن، أي قاضٍ يجرؤ على حمل هكذا مهمة مشكور لأنه تحمّل المسؤولية. ولا أريد أن أدخل في تفاصيل إضافية».

هل ماتت قضية تفجير مرفأ بيروت؟ يجيب «ليست العدالة في أن يحكم القاضي بين مؤجر ومستأجر. العدالة لتتحقق يجب أن تكون شاملة».

يأبى غالب غانم أن يستريح ويقول: «معروف أنه حين يتقاعد إنسان في لبنان ينساه كثيرون. أشكر ربي على نعمة العلاقات الجيدة المستمرة. ولم أسمح لنفسي بالإنتقال من موقع الناشط الى موقع المستقيل من كل شيء. ملكتُ صلابة الدخول الى مجلس القضاء الأعلى مبتسماً والخروج منه مبتسماً». هو طمح الى تعاطي العمل السياسي «رشحتُ نفسي الى النيابة في العام 2012 لكن الإنتخابات اُجلت. في المرة التي تلت لم أقلّل عقلي. أما حكومياً فعرضت عليّ مراراً حقيبتا العدل والداخلية لكنهم كانوا، في آخر لحظات، يغيّرون رأيهم». لا يهم، فما يُثلج قلبه أكثر هو أنه يعمل ساعات وساعات في مكتبه الخاص في مجال التحكيم والإستشارات ويهتم في بلدته بسكنتا بنشاطات فكرية وأدبية. وماذا بعد؟ هو من عشاق أم كلثوم وفيروز ووديع الصافي ومحمد عبد الوهاب. ينتشي حين يسمعهم. القلم لا يغادر يده. ويقرأ كثيراً السيَر الذاتية والتاريخ والروايات الرومانسية. وفي مكتبته وقلبه دائما الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد والقرآن الكريم ونهج البلاغة وإنجيل بوذا. وهو كتب «أيام الصفاء والضوضاء» سارداً فيه تواريخ من تاريخ حياته. كتبه ولم يحذف منه شيئاً.