IMLebanon

أعيدوا إلينا سايكس ـ بيكو

سايكس ـ بيكو الأول يترنَّح. مئة عام كانت كافية لإلغاء أمة وشعب، بكلفة حروب عسكرت الأرض، وعنف استوطن العقل والروح. ما خلَّفه سايكس ـ بيكو، بات مخلَّعاً. الناس تطالب: «أعيدوا إلينا سايكس ـ بيكو». البدائل القادمة، هي بقياس الطوائف والمذاهب والإثنيات وربما العشائر أيضاً. الطريق إليها خرائط بحدود الدم والثأر والتوحش. لقد أخرجت السياسة من الحقل العام. ضيوف المرحلة مجرمون وقراصنة وصيادو مذابح. لم يبق في كيانات سايكس ـ بيكو، شعب. الشعوب هربت إلى المنافي، أقامت في اليأس. أوطانها على قياس بؤسها ويأسها، وحدودها بحدود ظلالها البائسة. كل ذلك، ما كان سيحدث، من دون سايكس ـ بيكو، ومصاحبه، وعد بلفور. ومن دوننا أيضاً. لنا حصة كبرى في صناعة الهزائم والكوارث والتوحش.

كأننا على موعد مأساوي. الذي يتهدد المنطقة، جغرافياً حاضنة للجنون المقيم في ما تبقى من كيانات. رعب غير مسبوق ساري المفعول. رعب لم يولد من حرب بل من عقل وإيمان. العقيدة هي الرعب، الغاية هي تحويل البشر إلى تعويذة دينية طالقة من الزمن والعقل والضوء. ظلم وظلام شديدان، يقودان الأمة إلى وثنها. كأن ما حصل كان لعنة، والآتي أفدح.

لا تُرْجَم سايكس ـ بيكو ظلماً. لقد ارتكبت «الخطيئة الأصلية»، بل أم الأخطاء جميعاً. مع «وعد بلفور» باتت الأمة الوليدة، مستباحة. الحروب موسمية. من النكبة إلى العدوان الأخير على غزة، مروراً بالنكسة و «تشرين» وغزو لبنان و… الكيانات، وليدة سايكس ـ بيكو، قيد الإقامة في العجز. ممنوع أن تكون قومية، تخشى أن تكون فلسطينية، بحاجة ماسة إلى راع دولي أو إقليمي، ليحميها من «أخوتها». «إسرائيل» مضمونة بثمن الطاعة للغرب والامتناع عن «نصرة» فلسطين… على أن كل ذلك، ليس بسبب سايكس ـ بيكو، فلدى العرب من عبقرية الفتن، ما يغذي قروناً وأجيالاً وشعوباً.

حدث أن طالب وزير خارجية بريطانيا الأسبق جاك سترو دولته بأن تندم على ما فعلته مرتين: عندما قسَّمت المشرق، وعندما أعطت وعد بلفور. إذاً، لا بد من اعتذار، هذا أقل الاعتراف والإيمان.

إنما سايكس وبيكو ليسا اثنين، إنهما جمع غفير من الأتباع العرب، وسلالة عائلات حاكمة وأرومات بائدة ظلت على قيد الحياة… حراس «المعاهدة» جنرالات وعسكر وعقائد وأحزاب وممالك وإمارات ومشيخات. تقسيم الأمة على الورق استولد كيانات سياسية هشة ومتعادية. استبسلت قيادات للدفاع عن «المعاهدة». بات كل كيان قلعة قطرية. كل كيان أمة. لكل كيان عائلة مالكة أو قيادات وجنرالات تتصيد السلطة قنصاً… بين الكيانات عداء أخوة أشد من عداء الأعداء. واختصاص العدو، عقد مصالحات بين كيانات الأشقاء الأشقياء.

البدايات ليست كالنهايات. منذ مئة عام، قاتل سوريون ولبنانيون وعراقيون التقسيم والانتداب. قاتلوا في فلسطين جموع المستوطنين. كان لهم شرف الرفض وشر الخسارة. لم تنجح مقاومة. الفرنسيون اغتالوا الاستقلال السوري. البريطانيون اغتالوا الوطنية العراقية، الصهاينة اغتالوا فلسطين بلا هوادة. الأمة المهزومة اليوم، هي بنت الخديعة البريطانية الفرنسية، ووليدة سياسات قطرية انتهازية واستبدادية واستعدائية.

علامات العنف الاستعماري لتكريس الكيانات كانت بالغة الدلالة في توحشها. خنقوا الثورات العربية. أطاحوا الثورة السورية الكبرى. دجّنوا القيادات الوطنية، سجناً ونفياً وتعقباً. كذلك فعلوا في طرابلس المتمردة في جبل عامل الثائر، في مطارح البقاع الشمالي، وفي مؤتمرات الساحل في بيروت.

غريب! عندما استتب الأمر، بعد انسحاب قوى الانتداب، استشرست سلطات الكيانات في الدفاع عن «استقلالها» وحدودها… إنما المفاجأة المرة، جاءت على أيدي الحركات القومية والأنظمة العروبية والأحزاب الوحدوية التي رأت أن الطريق إلى الوحدة يمر بالكيانية والقطرية، وبالسلطة الاستبدادية… هذا طريق مضاد للوحدة والكيان والوطنية. تحوَّلت الكيانات إلى ملكيات عائلية. ها هي اليوم، عشوائيات، يسودها التطرف والعنف وينتظرها العدم السياسي والوطني والقومي. صحراء من الدماء هذه التي تركها سايكس ـ بيكو. تقسيم فاشل مقابل ربحية مضمونة، لإسرائيل وحلفائها. العرب، أمة الخسارات الفادحة.

هذا ماض مضى. ثم، «لا يلام الذئب في عدوانه/ إن يَكُ الراعي عدوَّ الغنم». أعداؤنا منا وفينا. نحن العدو. أحزاب قومية تمارس الانعزالية والاستبداد والإقصاء. مفتونون بالتسلط. أعداء الوحدة، وحديون أصلاء. أعداء العلمانية، علمانيون ينسجون مع الطوائفيات سجادة الصلاة السياسية. كل ما فينا هو منا. هذه أخطاؤنا. هذه كوارثنا… سايكس وبيكو كتبا الجملة الأولى، نحن، كتبنا النص بكامله من بعدهما. لم ننجز إلا الكوارث. هذه بلادنا تدل علينا.

أليس غريباً أن يصبح «سايكس ـ بيكو» مطلباً؟ «أعيدوا إلينا سايكس ـ بيكو» هو شعار المرحلة. لأن الخرائط التي تحفرها المعارك، ستمحو حدود الكيانات، لصالح إمارات ومشيخات وقبائليات وإثنيات وطوائفيات طفيلية تتغذى من العصبيات المظلمة.

«أعيدوا إلينا سايكس ـ بيكو». هذا ما تبقى بعد الخراب المنذر بزوال أمة وشعب وكيانات. الوحوش المتدينة قادمة. التوحش المذهبي، ورث التوحش الاستبدادي، الذي قام بعملية تجريف المنطقة من العقلانية، واستبدل الثقافة بالتقارير الأمنية. الفكر الديني المتزمت اغتال بدوره الفكر النهضوي. لقد قتل محمد عبده ومُثِّلَ بعلي عبد الرازق ونفي زكي الأرسوزي وأبعد شبلي الشميل وفرح أنطون، وأعدم أنطون سعادة… ولائحة المغدورين طويلة.

من العار أن يكون أقصى الطموح، إعادة إحياء سايكس ـ بيكو، وتصدير اللبننة، كنموذج لأنظمة كسيحة. حان وقت الاعتراف: هذا الدم الغزير، من سيوفنا.