IMLebanon

الحريري وشيراك…

 

 

الـبحـر والسفينة والـريـح

بعد إعلان وفاة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في باريس أصدر رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بياناً نعاه فيه وقال: “غاب عن العالم اليوم رجل من أعظم الرجال الذين أنجبتهم فرنسا، وشخصية فذة لعبت ادواراً مميزة في قيادة اوروبا وترسيخ مكانتها في المعادلات الدولية”. وأكمل: “إذا كان اللبنانيون والعرب يشعرون اليوم بخسارة رجل ترك أثراً عميقاً في وجدانهم على مدى سنوات طويلة، فإنني من موقعي السياسي والعائلي أشعر بخسارة خاصة لصديق عزيز، شكل التوأم الروحي للرئيس الشهيد رفيق الحريري، والأخ الكبير لعائلتي التي عرفته داعماً ونصيراً وأباً ولبلدي الذي لن ينسى أياديه البيضاء في دعم لبنان والعمل على حمايته وتقدمه”.

 

في خضم بحر هائج من الدم والدموع استلم سعد الحريري قيادة السفينة بعد اغتيال والده، وكان عليه أن يواجه، في عالم تعصف فيه الرياح، ولم تكن المواجهة سهلة في هذا العالم الذي غاب عن قيادته جورج بوش الإبن وجاك شيراك بعدما غاب رفيق الحريري.

 

ظلّ رفيق الحريري

 

يُظلَم سعد الحريري إذا تمت مقارنته في عمله السياسي مع والده. أتى رفيق الحريري إلى السياسة متأبطاً ملفات كبيرة كلف بها من موقعه الأول مستشاراً للملك فهد بن عبد العزيز. ومن هذه النافذة أطلّ على العالم السفلي للسياسة اللبنانية من فوق. بنى لنفسه موقعاً وإسماً وخاض مواجهات كثيرة وفتح أبواب العلاقات مع قادة دول ووسع فريق عمله بحيث بات يمكنه أن يكون موجوداً تقريباً في كل عواصم القرار.

 

في المشهد الأول بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان ابنه بهاء في الصورة يقف ويخاطب الجماهير الكبيرة التي أتت ثائرة تودع الرئيس الراحل. ولكن بعد أيام تصدر المشهد الأبن الثاني سعد، الذي أطل من قرب الحفرة التي أحدثتها عملية التفجير في وسط بيروت، ليعلن أن بيت رفيق الحريري لن يقفل وليتولى قيادة الدفة. ولكن في ظلال كثيرة تسيطر على عالم يجهله دخل إليه فجأة ومن دون تحضير، وكان عليه أن يتعرف إلى تفاصيله الكثيرة وكلماته المتقاطعة وأسراره الغامضة ومسالكه الوعرة، عالم شارك في صنعه بنسبة كبيرة رفيق الحريري وخاض فيه مواجهات كثيرة نجح في معظمها قبل أن يخسر الجولة الأخيرة بالإغتيال.

 

إغتيل رفيق الحريري وهو خارج رئاسة الحكومة. أقصي في خريف العام 1998 بعد انتخاب العماد أميل لحود رئيساً للحكومة على عهد رئيس النظام السوري حافظ الأسد، بينما كان يتقدم إلى خلافته ابنه بشار ويعمل على بناء أدوات حكمه في لبنان وفي سوريا. وأقصي في المرة الثانية في خريف العام 2004 بعد التمديد للحود وبعدما كان هدده بشار مباشرة. ولكنه وهو خارج السلطة كان مستمراً في المواجهة، وساعده على ذلك فشل محاولة بناء سلطة بديلة بعيداً منه وفي مواجهته. حاولت سلطة الوصاية السورية الحكم عن طريق الرئيس سليم الحص ولكنه سقط مع حكومته بعد انتخابات العام 2000 التي انتصر فيها رفيق الحريري وعاد بعدها إلى السراي، وخوفاً من أن تتكرر تجربة تلك الإنتخابات في العام 2005 كان القرار بإخراجه كليا من المعادلة بالإغتيال، خصوصاً أنه كان شكل نواة المعارضة الكبيرة مع رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط ومع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير ولقاء قرنة شهوان في ظل تأثيرات القرار 1559، الذي تجاهله النظام السوري واعتبره “حزب الله” أنه لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب فيه. ولكن حتى بعد اغتياله كان الشارع كفيلاً بإسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط 2005، ففي ظل غيابه بقي حضوره طاغياً…

 

عبور حقل الألغام

 

لم يكن متاحاً في ذلك الوقت أن يعود سعد الحريري ليملأ الفراغ الذي تركه والده في رئاسة الحكومة. كان لا بد من مرحلة انتظار ومن عبور بين الألغام. إتّسعت لائحة أسماء رؤساء الحكومات لينضم إليها على سبيل التسوية اسم نجيب ميقاتي رئيساً لحكومة انتقالية، متعهداً عدم الترشح إلى الإنتخابات النيابية. وحتى بعدما حصلت تلك الإنتخابات المفصلية التي غيرت الأكثرية النيابية لمصلحة قوى 14 آذار، كان طيف رفيق الحريري يفرض أن يكون فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة لتستمر المواجهة معه.

 

على رغم استقالة الوزراء الشيعة مع الوزير يعقوب الصراف وعلى رغم حصار السراي، بقيت حكومة السنيورة صامدة حتى جرت محاولة إسقاطها بالقوة العسكرية مع اجتياح “حزب الله” لبيروت والجبل في 8 ايار 2008. حوصر سعد الحريري في قصر قريطم كما حوصر وليد جنبلاط في منزله في كليمنصو. التسوية التي حصلت في الدوحة فكّت الحصار عنهما وأوصلت قائد الجيش ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية، وأبقت على السنيورة في السراي بانتظار قلب موازين القوى في انتخابات ربيع العام 2009. ولكن تلك الإنتخابات على رغم العملية العسكرية والتسوية، أعادت الأكثرية إلى قوى 14 آذار وبفعل ذلك الإنجاز فُتحت الطريق أمام سعد الحريري ليكون رئيساً للحكومة ويعيد طيف رفيق الحريري إلى السراي الحكومي، ولو بعد مخاض عسير خاضه خلال التأليف واضطراره إلى الإعتذار قبل أن يعاد تكليفه ويقبل بالشروط التي وُضعت عليه. ولذلك لم تكن طريق رئاسة الحكومة معبدة بالأزهار، خصوصاً أن “حزب الله” مع “التيار الوطني الحر” كانا حصلا على الثلث زائداً واحداً في الحكومة تجنباً لمأزق حكومة 2005 وللإمساك بقرار إسقاطها وتكبيل الرئيس سعد الحريري.

 

في 12 كانون الثاني 2011 اتُخذ ذاك القرار من مقر العماد ميشال عون في الرابية بينما كان الرئيس سعد الحريري يهم بدخول البيت الأبيض في واشنطن للقاء الرئيس باراك أوباما. مرة جديدة أعادت القمصان السود الرئيس نجيب ميقاتي إلى السراي الحكومي بعدما كانت اندلعت المواجهات داخل سوريا بين النظام والمعارضة. في آذار من ذلك العام يتذكر اللبنانيون مشهد الرئيس سعد الحريري في ساحة الشهداء وهو يخلع جاكيتته ويطوي أكمام قميصه مخاطباً شبان وشابات لبنان: “جيت أحكيكم بالعامية. لغة شباب لبنان وصبايا لبنان. نحنا اللبنانيي بدنا نتنفس. بدنا نحكي. بدنا نعلي صوتنا. جيت إسأل كل واحد ووحدة فيكم إنتو المرجعية الأولى والأخيرة إنتو 14 آذار إنتو ثورة الأرز بدي اسمع جوابكم. جيت اسألكم: قبلانين بوصاية السلاح؟ إنتو قبلانين إنو السلاح يكون بإيد حدا غير الدولة اللبنانية؟ قبلانين تتشكل حكومة جايبتها وصاية السلاح لتكرس وصاية السلاح على حياتنا الوطنية؟ قبلانين تتشكل حكومة تلغي علاقة لبنان بالمحكمة الدولية؟…”

 

بعد هذا الخطاب تم الإعلان عن أن الرئيس سعد الحريري غادر لبنان بعد اكتشاف محاولة لاغتياله. لم يكن من المتوقع أن تطول غيبته. صحيح أن “حزب الله” مع “التيار الوطني الحر” نجحا في تأليف حكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، ولكن كما الحكومات التي تشكلت في زمن الرئيس رفيق الحريري كان قدر هذه الحكومة أن تسقط في 22 آذار 2013 بإعلان رئيسها الإستقالة، التي تزامنت مع انخراط “حزب الله” في القتال في سوريا وانتقال عمليات التفجير الإنتحارية إلى لبنان.

 

من بوابة المملكة العربية السعودية حيث التقى الرئيس سعد الحريري، ومن بيت الوسط الذي صار مقر رئيس “تيار المستقبل” بعد قصر قريطم، انطلقت عملية تكليف الرئيس تمام سلام خصوصاً أن شبح الفراغ الرئاسي كان بدأ يخيّم على الجمهورية.

 

كان لا بد من مرحلة انتظار جديدة قبل أن يعود الرئيس سعد الحريري إلى لبنان وقبل أن يعود إلى السراي، بعد التسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا في 31 تشرين الأول 2016. بين تسوية ما بعد اتفاق الدوحة وبين هذه التسوية تبدلت المعطيات والظروف. بدا كأن الرئيس سعد الحريري وضع خطاب آذار 2011 جانباً. في تشرين الثاني 2017 كان يعلن من السعودية استقالة حكومته في ظل التباسات كثيرة وتفسيرات كثيرة تحدثت عن أنه أعلنها مكرها. مرة جديدة كانت الرئاسة الفرنسية تتدخل مع أيمانويل ماكرون ليعود الحريري إلى لبنان ويعود عن الإستقالة. مفاعيل تلك التسوية نفسها أعادت الحريري إلى السراي بعد انتخابات أيار 2018.

 

في 20 أيلول الحالي كان الرئيس سعد الحريري في باريس يلتقي الرئيس ماكرون في محاولة للحصول على تعهدات باستمرار الإلتزام الفرنسي والعالمي بمقررات مؤتمر “سيدر”. ولكن نمط العلاقة بين الرئيس الفرنسي الحالي وبين رئيس حكومة لبنان بات يختلف كثيراً عن نمط العلاقة الذي كان بين شيراك الذي تودعه فرنسا اليوم وبين رفيق الحريري الذي ودعه لبنان في 15 شباط 2005. هناك التزامات مطلوبة من الحكومة اللبنانية قبل أن تفي باريس بالتزاماتها. لا وجود اليوم لشيك على بياض. صحيح أن في البيت الأبيض رجل اسمه دونالد ترامب يفرض العقوبات والحصار على إيران والنظام السوري و”حزب الله” ولكن السفينة التي تقودها التسوية تواجه عواصف كثيرة في البحر. وهي مهددة بالغرق كما قال عنها رئيس الجمهورية ميشال عون.

 

ماذا على الرئيس سعد الحريري أن يفعل؟ ما هي الخيارات المتاحة له؟ هل يقفز من السفينة؟ هل يحاول أن يكون شريكاً في القيادة؟ هل عملية الإنقاذ ممكنة؟ إنها خيارات صعبة في بحر هائج يقود فيه السفينة أكثر من قبطان.

 

في باريس عندما سيقف الرئيس سعد الحريري في تشييع الرئيس الراحل شيراك مودعاً، سيتذكر أن هذا الرئيس أسرع إلى لبنان وقصر قريطم ليكون حاضراً في وداع الرئيس رفيق الحريري. وجهان يغيبان والسفينة تتلاعب بها الرياح في بحر بلا بوصلة وربما بلا شواطئ.