IMLebanon

عقول البيارتة مع الثورة… وقلوبهم مع الحريري الأب!

 

عن أهل المدينة وقضاياهم وأحلامهم المُتكسرة

 

يبدو موضوع إنتفاضة 17 تشرين الأول شديد الخصوصية عند البيارتة.

 

الثورات ليست غريبة عنهم، هم انخرطوا فيها منذ زمن، حملوا أحلامهم السياسية الوطنية والقومية في مراحل مختلفة من التاريخ اللبناني الحديث.

 

دفعت آمال المد العروبي وقضية التحرر من الاستعمار والاحتلال في فلسطين، أهل بيروت الى التحرك في ساحاتها رفضا للهيمنة وللعمالة المحلية للخارج، كما تنديداً بمؤامرات لم تتوقف يوما ضد وطنهم وهويته العربية.

 

قضايا التحرر تلك حاكت المزاج البيروتي السني المعروف بمحافظته وتديّنه غير المتشدد والبعيد عن لوثة العصبية المذهبية التي حاولت قبل فترة اختراق هذا المجتمع الذي سرعان ما لفظها بعيدا. ثار أهل بيروت نصرة لوطنيتهم ولساحرهم جمال عبد الناصر العام 1958، وساروا على هذا النهج طويلا بعدها حين شكلت المقاومة الفلسطينية توأما لهم منذ ستينيات القرن الماضي حتى انكسار الحلم العام 1982.

 

في تلك الفترة، ظهرت السمة البيروتية المتحفظة والمفتقدة للمبادرة التي سُلمت الى المقاومة الفلسطينية مع نهش الحرب للعاصمة مع كل ما حملته من فوضى سلاح وغياب للقانون.

 

للبيارتة القدماء روايات كثيرة عن تلك المرحلة وما بعدها. انكفأ إبن بيروت، ووقف موقف المتفرج لخضوع مدينته للسلاح الغريب عنها، وغابت قوى طبعت المزاج البيروتي و«هاجرت» زعامات.. واستمر البيارتة في أرضهم، لكن غرباء عنها.

 

إعادة اكتشاف الذات

 

مع بزوغ فجر السلم الأهلي، تعرف البيارتة على ذاتهم من جديد. إختصر رفيق الحريري الأمل بنهضة جديدة، وحلم مع أهل بيروت الذين جاءهم من عاصمة الجنوب صيدا، بدور أخذ ينمو مع الايام على خاصيتين جديدتين: الإعمار والسلام.

 

رأت شرائح واسعة من أهل بيروت، وليس فقط سنتها، في الحريري مخلّصا من مرحلة أرادوا من ذاكرتهم لفظها بعيدا. وكان للحريري سحره الخاص الذي تواءم مع المرحلة، مثلما شكل الحضن السعودي مرجعية افتقدها السنة بعد انكسار الحلم المصري الناصري ومن ثم الفلسطيني الذي حاول تأمين الاستمرارية معه.

 

وللبيارتة ومن سكن بينهم ذكريات جميلة مع محطات فاصلة في تسعينيات القرن الماضي: بناء الدولة، الإعمار، حفظ العملة، تأمين الخدمات، إقامة المناسبات الرياضية القارية والإقليمية والعربية، وعقد القمتين العربية والفرنكوفونية، وغيرها الكثير.

 

لم يستكمل هذا البناء بعد ان خطف القتل زعيمهم. كانوا بالكاد بدأوا رحلة الانخراط في السياسة بما تتطلبه من تنظيم وتأطير وجديّة في الانخراط والإيمان بالمشروع.

 

لم يكن ذلك سهلاً على زعيمهم المغدور. لقد نقل البيارتة من لا مبالاتهم وأحيانا كسلهم، لرفد مشروعه العابر، والحق يقال، للطوائف. معه، عثر هؤلاء على المُلهم والزعيم، صاحب الإحترام والتقدير في العالم، والقادر على تجيير العلاقات في سبيل بلده.

 

ربما لهذه الأسباب سقط الحريري شهيدا. وقف البيارتة مشدوهين أمام مشهد الاغتيال الوحشي قرب السان جورج. لم يكن قتل الحريري استهدافا لشخص، بل لمشروع، لحلم، أو على الأقل هم رأوه هكذا.

 

مظلومية الإبن

 

ثار البيارتة على منفذ مجهول علنا، لكن كان معلوما لديهم، ملأوا الساحات غضباً ودموعاً. شقّت هتافاتهم في 14 آذار 2005 عباب السماء، بعد أسابيع قليلة على الغياب المفجع للحريري في 14 شباط.

 

وبغمرهم للساحات، شارك البيارتة في صنع تاريخهم، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة فالواقع كان أكثر تعقيدا. ذلك أن مع غياب الحريري، إفتقد هؤلاء للزعيم، لا بل للأب. بذل الإبن، سعد، الكثير ليملأ الفراغ، لكنها الطبيعة البشرية ومعها الأقدار التي ظلمته وظلمت محبيه، فقد دخل في منافسة غير متكافئة مع خصوم ذوي عراقة في اللعبة السياسية الداخلية وخبرة في تحريك الطائفية في سبيل السلطة.

 

اليوم، تتنازع أهل بيروت ومحبي الحريري الأب مشاعر متناقضة تجاه الإبن. عندما تولى رئاسة الوزراء، قدّم سُنة بيروت دعما غير متناه له. كان حُبا من دون مقابل لمن مثّل الاستمرارية لزعامة أسسها الأب، ومثّلت حماية المشروع قضية حياة أو موت لهم.

 

في فترة ما بعد استشهاد الحريري، حصل الإبن على حضانة كاملة من الحلفاء المحليين ومن الحلفاء  الاقليميين والدوليين. كما وفر الخصوم أرضية مرحبة لتسلمه. لكن مع الوقت، وخاصة مع المتغيرات في السياسة المحلية والتبدلات الاقليمية والدولية، كان على الحريري مواجهة محك الاختبار. نجح أحيانا وأخفق أحيانا أخرى.

 

يتحدث البيارتة بحرقة على واقع الحال اليوم. ليس الحريري الإبن سوى مرآة لواقع مُر تعيشه الطائفة. هي حالة من الإحباط تغالب هؤلاء في الحديث عنها. «لم يفعل سعد الحريري الكثير ليخرجنا من واقعنا المرير». يقول إبراهيم، صاحب مجموعة من المحلات التجارية الخفيفة أهمها في الملا وطريق الجديدة. تراجع حال الأعمال في ظل الأزمات المحلية والإقليمية وخاصة بعد ما حدث في سوريا. الحريري كان غائبا عن المسرح، يقول إبراهيم الذي يتحسر كثيرا على «رفيق الحريري الذي تشعر الطائفة بفراغه اليوم أكثر من أي وقت مضى».

 

خليل، صاحب محل حلاقة عريق منذ أواخر الخمسينيات في منطقة فردان، يسترسل في الحديث عن الحريري الإبن والفارق عن والده. الرجل، الذي يقترب من الثمانين والذي عاصر المراحل الهامة في تاريخ مدينته، يقول: كان رفيق الحريري رجل المرحلة، كنا نشعر بعمقه وقدرته. هو جاء في الوقت والمكان المناسبين. كان ظاهرة. أما سعد الحريري، فهو بدأ ضعيفا، لكنه تطور مع الوقت وعمل على نفسه كثيرا. ويضيف «الفارق كبير بين الرجلين، الأب عصامي وخبر الحياة وتطور عبرها وكان يمتلك العلاقات الهامة مع السعودية والخليج والعالم».

 

يتوقف خليل هنا، لا يرغب بكسر صورة الحريري الإبن مع محبته العميقة له. والواقع ان عدم استرساله في شرح صفات الرجل يكفي لشرح واقع البيارتة اليوم.

 

بالنسبة الى نهاد، العامل في سيارة للأجرة، فإن انتقاد سعد الحريري لا يجوز في هذه المرحلة. هو لا يخفي تعاطفه مع تيار المستقبل، ويشير مقربون منه الى انتمائه له. لكنها مرحلة يجب أن تتوحد الطائفة السنية خلالها، حسب نهاد الذي يقر بأن واقع الحريري اليوم صعب جدا، ولكن يجب ان يحضر في مرحلة الحل للأزمة الحالية.

 

لماذا الإنكفاء عن الانتفاضة؟

 

هو سؤال تبدو الاجابة عليه بسيطة. وهي إجابة يختلط فيها الشخصي بالاجتماعي والاقتصادي وطبعا السياسي.

 

فقد اندفع أهل بيروت من السنة الى شوارع مدينتهم خلال الاخطار الكبرى التي أحاطت وبهم وانطلاقا من مسؤوليتهم الوطنية والقومية. وبينما كانت السياسة في الماضي النهر الذي غرفوا منه، إختلط السياسي بالديني والشخصي في مرحلة ما بعد اغتيال الحريري، وخاصة خلال استحقاقات الانتخابات النيابية.

 

أما اليوم، فيمتزج شعور الاحباط من واقع السنة في المنطقة بحال الطائفة التي تعيش كغيرها أزمات إقتصادية وإجتماعية كبرى. وبرغم كل تلك الاسباب، يبدو الأمر اكثر وقعا عند البيارتة في ظل أزمة زعامة لديهم.

 

يعلق إبراهيم على هذا الامر قائلا: لقد وقع الحريري ضحية موازين قوى أكبر منه، والحقيقة انه لم يكن الشخصية المثالية لمواجهتها. هو يشير الى أكثر من محطة عاكس فيها الحريري مزاج أهل بيروت. وإذا كان أصحاب هذا المزاج لا يتوقفون كثيرا عند زيارة الحريري لدمشق كونها نُسخت مع الوقت وتجاوزتها الأحداث، إلا ان التسوية التي أبرمها الحريري مع زعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون ليصبح رئيسا، لا تزال تترك ندوبا لديهم.

 

هكذا هو شعور سنة بيروت. لم يكف إحباط الواقع الإقليمي، بل زادته سوءا إدارة الحريري لأزماته، حسب وجهة النظر هذه التي ترى ان زعيم التيار الوطني الحر اليوم جبران باسيل يرسم ملامح المرحلة المقبلة التي يريد خلالها ان يتولى الرئاسة بعد عمّه الرئيس ميشال عون.

 

هنا، تصبح استمرارية الزعامة الحريرية تفصيلا. فما معنى أن تبقى زعيما من دون زعامة؟ يسأل المعترضون على أداء الحريري. لا بل ان هؤلاء يزيدون: كيف لمن لم يتمكن من إدارة مؤسساته أن يدير بلدا؟!

 

والواقع أن ظلما كبيرا يكتنف هذا الانتقاد، وهو انتقاد لعل الحريري على دراية كامله له. إذ انه يعلم مدى المرارة التي تحياها طائفته في بيروت التي، على الرغم من ذلك، لم تخرج لمهاجمته مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول التي استهدفته كما غيره من رموز البلاد.

 

لتلك الاسباب جميعا لزم معظم البيارتة منازلهم ومحالهم ومؤسساتهم متسمرين أمام الشاشات لمتابعة الانتفاضة على سلطتهم. هو ليس موقفا سلبيا، هم يرغبون بالثورة وبتغيير جذري لكل ما يجري. هم يحاكونها بعقولهم، إذ انهم كغيرهم، يكرهون الفساد ويرغبون في التغيير، لكنهم أيضا يتعاطفون مع الحريري ويؤلمهم تحوله الى ضحية. هنا يمكن تفسير انتفاضة أعداد منهم في مقابل ما اعتبروه وقوعا للحريري كبش فداء للأزمة. وبرغم كثرة الحديث عن إيعاز حريري لتحرك هؤلاء في الشوارع عبر مسيرات وقطع للطرقات، إلا انه كان أيضا رفضا لاستثناء الحريري عن الباقين. هو لا يزال زعيم البيارتة الذي يكمن حبه في القلوب، وإن نحاه هؤلاء عن المشهد بعد إخفاقاته.

 

في كل الأحوال، لم يشكل تحرك البيارتة في الشارع سوى الإستثناء الذي يثبت القاعدة. أي قاعدة الإستنكاف عن الحدث وهو انتفاضة اللبنانيين. ويعلق الحلاق خليل على هذا الواقع بالقول: ليس الأمر اعتراضا على الحريري بقدر ما يتعلق بالشخصية البيروتية المنزوية وغير الراغبة بالمشاكل وتحمل المسؤولية. ويشير الى انه حتى في أوج انتفاضات البيارتة كان هؤلاء يستندون الى عكاز فلسطيني وأحيانا كردي في تحركاتهم، وخاصة تلك التي تخللتها صدامات مسلحة.

 

جيل جديد مغاير للآباء

 

يرى خليل ان طبيعة البيروتي لم تتغير، وإن تبدو الأجيال الجديدة مختلفة الاهتمامات والتطلعات. هي باتت تنظر الى الأمور من زاويتها الخاصة، يقول.

 

لكنها ليست خاصية بيروتية، ذلك ان الاجيال الجديدة في الوطن بات كثير منها يكفر في السياسة ولم يعد يقاربها عبر وعي جماعي في سبيل قضايا كبرى، كما كان حال الآباء والأجداد. إنه ليس فقط اختلاف الأجيال، بل اختلاف العصر وأدواته.

 

ويستذكر خليل الايام الماضية مترحما على زمن عذب لا يزال أهل العاصمة يشعرون بالحنين إليه. هو زمن النضال والمثالية الذي تدمر في الثمانينيات، قبل أن يعود سطوع وهج الحريري الأب ببعثه في بداية التسعينيات. وبقدر ارتفاع الآمال ومثاليتها، بدا الانكسار كبيراً مع استشهاد الحريري وإخفاق مشروع الحريري الإبن.

 

ولعل لا مبالاة البيارتة تظهر جليا في وجوه أهل العاصمة التي تُطل بوجوم وحذر في شوارع طريق الجديدة والظريف والملا وفردان ورأس بيروت.. وهي لا مبالاة مرشحة للاستمرار طويلا بعد ان فقد كثيرون الأمل ببعث جديد لبيروت. ففي الوقت الذي تطبع فيه الانتفاضة البلاد بالثورة والغليان، يكتفي البيارتة بمشاركة هادئة. لعله الصراع بين قلوبهم التي تهتف لمشهد الثورة، وعقولهم التي تخشى دفع أثمان جديدة تضرب عميقا في وجدانهم.