IMLebanon

الرئيس دياب أمام خيارين: المبادرة أو الإستقالة

 

لا يشكل استحقاق سندات «اليوروبوند» في التاسع من آذار سوى جزئية بسيطة من حجم الأزمة الشاملة والكلية التي يواجهها لبنان، والتي أفقدته كل التوازنات التي تؤمن سيادة واستقرار وازدهار الدولة. وبالرغم من محدودية الخيارات لمعالجة هذا الاستحقاق، فقد ظهرت حكومة حسان دياب عاجزة عن اعتماد القرار المناسب بين خيار دفع السندات الآن أو جدولة الدفع أو هيكلته ضمن رؤية شاملة للتعامل مع الدين العام، والذي بات يرهق كاهل المالية العامة  بعدما تخطى نسبة 150 في المائة من النائج العام.

 

لا يمكن للحكومة تجزئة الأزمة الشاملة والكلية للبحث عن حل منفصل لكل جزء بعيدا عن الأجزاء الأخرى. فالأزمة كبيرة ويتطلب حلها وضع رؤية شاملة وترجمة هذه الرؤية إلى خطط وبرامج قابلة للحل. وهذا الأمر لم تفعله الحكومة حتى الآن، رغم وعودها ببلورة مثل هكذا رؤية اصلاحية في أقرب وقت ممكن.

 

اللافت في الأمر بأننا لم نتعرف بعد إلى الكفاءات العالية التي وعدونا بها عند تشكيل حكومة من الاختصاصيين المشهود لهم بالإنتاجية العالية والإبداع. وجرت ترجمة هذا القصور في كفاءة الوزراء من خلال اللجوء إلى تشكيل لجان لبحث كل العناوين التي تضمنها البيان الوزاري، والذي جاء انشائياً بدل أن يشكل رؤية عامة لمشروع اصلاحي شامل للدولة بهيكلها وماليتها وللوضع الاقتصادي الذي يواجه حالة من الكساد شبه الكامل.

 

انتظر اللبنانيون ولادة حكومة من الاختصاصيين المستقلين ولكن سرعان ما خابت آمالهم، بعد ولادة حكومة «حزب الله» والتي توزع وزراءها على حلفائه من القوى السياسية، وشكل هؤلاء الوزراء الظل للقيادات التقليدية التي عاثت فساداً وتخريباً في الدولة منذ ثلاثة عقود.

 

كان من الطبيعي في ظل هذا الواقع أن تصاب الحكومة بالشلل في آلية قرارها، وأن يترجم ذلك بسلوكية التريث والإنتظار بعدما فشلت اللجان التي شكلتها بالخروج بتوصيات تسهّل اتخاذ القرارات المناسبة لمواجهة مختلف وجوه الأزمة الشاملة وفي رأسها إحتواء « وحشي» الدولار والغلاء بعدما زادت الأسعار عن 60 في المائة عن مستوى أسعار ما قبل الانتفاضة.

 

في ظل عوارض الشلل والفشل التي ظهرت من خلال سوء أداء الحكومة العام، فقد لجأت الحكومة إلى تصحيح هذا العجز من خلال الاستعانة بالخبرات الدولية لتقديم المشورة التقنية والتجربة العملية من خلال دعوة فريق استشاري من صندوق النقد الدولي، والتعاقد مع شركة مالية وأخرى قانونية للتفاوض مع حاملي سندات «اليوروبوند». لكن لا يبدو مع الأسف بأن الحكومة جادة لوضع خطة اصلاحية شاملة تبدأ بالبحث عن التعامل مع عجز الموازنة أو مقاربة العجز في الكهرباء، أو معالجة أزمة المصارف وارتفاع سعر صرف الدولار، أو التصدي للأزمة الاقتصادية المتفاقمة بسبب ضعف الاستثمارات وجفاف التسليفات.وهذا ماهو مطلوب كاولوية وبصورة ملحة .

 

في رأينا لقد اسقطت الحكومة نفسها في مغالطة كبرى عندما وافقت على الموازنة العامة التي وضعتها حكومة سعد الحريري، بما تضمنته من عجز في أرقامها، والتي يمكن أن تنتهي بعجز يقارب عشرة مليارات دولار في نهاية السنة الجارية، في ظل تراجع مختلف واردات الدولة. لكن تبقى المعضلة الأساسية التي يواجهها رئيس الحكومة في الحصول على كل المعطيات والتسهيلات اللازمة لوضع الرؤية الاصلاحية الشاملة، وهذا الأمر يتعدى في خطورته على مستقبل الحكومة من ضعف الإنتاجية أو انعدامها في كل المجالات. وتفيد بعض التقارير بأن حاكم مصرف لبنان يحتفظ بالأرقام التي لديه حول الأوضاع النقدية والمصرفية ولا بريد ان يشارك احدا بها، والتي يشكل توافرها عنصراً أساسياً في أية عملية إصلاحية لمالية الدولة، أو أية عملية تشريعية أو إدارية تضطلع بها الحكومة لاستعادة دورها وصلاحياتها في ضبط القطاع المصرفي والحفاظ على ودائع اللبنانيين. في هذا السياق يبقى المطلوب من رئيس الحكومة الاصرار على الحصول على الأرقام السرية الموجودة لدى حاكم مصرف لبنان، وإطلاع الرأي العام على حقيقة الوضعين النقدي والمالي.

 

تبرز في هذا السياق أهمية الكشف عن الأرقام التي يخفيها حاكم مصرف لبنان عن المسؤولين، مع ما تحمله في طياتها من أسرار السياسات النقدية والمالية التي أسست لحالة الفساد الكلي والشامل على مستوى الدولة والمصارف والقوى والأحزاب السياسية. ولا بد أن يدرك رئيس الحكومة ووزير ماليته بأنه من غير الممكن والجائز الحديث عن طلب مساعدة صندوق النقد الدولي إذا لم تتوافر هذه الأرقام التي يحتفظ بها مصرف لبنان.

 

على ضوء النتائج التي أوصلتنا إليها السياسات النقدية والمالية التي اتبعها مصرف لبنان خلال عقدين ونصف بات من الضروري العمل على إجراء مراجعة عامة لكل موازنات وعمليات مصرف لبنان لتحديد المسؤوليات من جهة، وللبحث عن سياسة نقدية جديدة، تفتح المجال لاستعادة الثقة بمصرف لبنان كهيئة ضامنة لسلامة النقد ولأموال اللبانيين.

 

لا بد أن يدرك رئيس الحكومة، وأن يعمل على أساس بأن حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف ورؤساء مجالس إداراتهم هم في مركب واحد، وبأنهم سيعملون كل ما هو ممكن للاستفادة من الأزمة التي يواجهها اللبنانييون.

 

وكانت القرينة الواضحة على هذا التوجه التحويلات المالية الكبرى التي أجرتها المصارف خلال عام 2019. وبعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين أول والتي تقدر بما يزيد عن 17 مليار دولار. ولن ينتظر رئيس الحكومة طويلاً ليعبر أصحاب المصارف عن معارضتهم لكل أشكال إعادة هيكلة الدين العام، محاولين بذلك التخلي عن مسؤوليتهم في كل ما آلت إليه سياسات الاستغلال والأفساد التي ساهموا فيها.

 

ولا يمكن أن يتجاهل اللبانيون الدور الذي لعبته المصارف  بالتعاون مع شركات أجنبية، من خلال التخلي عن ملكية سندات «اليوروبوند» ، في محاولة مكشوفة لإجبار الدولة على دفعها في مواعيدها، وعلى حساب مدخرات اللبنانيين ولقمة عيشهم.

 

في النهاية  لا بد أن يدرك رئيس الحكومة بأن الوقت بات يداهمه، في ظل استمرار فشل حكومته على وضع رؤية اصلاحية لكامل وجوه الأزمة، وأن الاستمرار في الإنفاق على أساس الموازنة الراهنة سيؤدي إلى تخريب أية خطة إصلاحية.

 

ولا بد أن يدرك أيضاً بأن الناس تستعجل قيامه بما يلزم لتنفيذ ما وعد به، وبأن عليه الإقدام ولو تواجه مع القوى السياسية المتمثلة في الحكومة، والتي اختارته وأعطته الثقة في المجلس النيابي.

 

إذا شعر رئيس الحكومة بعدم قدرته على مواجهة هذه القوى فإن عليه أن يصارح اللبنانيين بذلك وأن يقترن ذلك مع إعلان استقالة الحكومة. وبالتالي فتح المجال أمام شخصية أخرى للمبادرة لوضع خطة اصلاحية شاملة.