توفي وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، الذي أدّى دوراً محورياً في السياسة الخارجية الأميركية خلال الحرب الباردة، عن عمر ناهز الـ100 عام.
وهنا نذكر بهذه الحادثة البارزة في تاريخنا، من منطلق «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى».
على الرغم من الخلافات بين الملك السعودي فيصل وبين الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إلّا أنه بعد حرب 1967 وعقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، تعهد الملك فيصل بتقديم معونات مالية حتى تزول آثار الحرب. ومن كلماته المأثورة قوله «الحياة علّمتني أن تسامح الأخ مع أخيه هو أكبر قيمة من انتصار المدافع والسيوف».
وكان للملك فيصل جملة شهيرة وهي «الدم العربي… أم النفط العربي»، وعمل جاهداً كي تستخدم الدول العربية البترول كسلاح لتحقيق الضغط، فاتخذت السعودية والإمارات والكويت قراراً بإعلان الحظر التام للنفط الذي تحصل عليه الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، هولندا، فرنسا، البرتغال، كندا، اليابان، زيمبابوي، وجنوب أفريقيا.
على الأثر زاره وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر في 7 تشرين الثاني 1973، حيث تمّ الاستقبال داخل مخيّم قصيّ خارج الرياض، وهناك دخل كيسنجر منحنياً من باب الخيمة، وكانت الجلسة على الأرض وظهر الملك بكل عزّة في منتصف المجلس ويحيطه أركان حكمه.
وكأن الملك فيصل أراد أن يعطي درساً واضحاً لكيسنجر بذلك الاستقبال، وهو قدرة السعوديين على العودة إلى العيش بالخيم والاستعانة بالجِمال والاكتفاء بالتمر واللبن كطعام مثلما كان يعيش آباؤهم لآلاف السنين. وقد قال الملك فيصل مقولته الشهيرة آنذاك وهي :«عشنا وعاش أجدادنا على التمر واللبن وسنعود لهما»، وكان ذلك هو أبلغ ردّ على محاولات أميركا بالضغط عليه من أجل العزوف عن قراره.
تحدث كيسنجر في مذكراته، حيث قال ان الملك فيصل استقبله مُتجهماً غاضباً وكأنه لا يُريد أن يقابله، فحاول كيسنجر أن يقوم باستفتاح حديثه بالمداعبة السياسية فقال: «إن طائرتي تقف هامدة في المطار بسبب نفاذ الوقود، فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرّة».
حينها لم يبتسم الملك بل رفع رأسه بكل عزّة وقال: «وأنا رجل طاعن في السن وأمنيتي أن أصلّي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت؛ فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟».
حاول كيسنجر جاهداً أن يثني الملك عن قراره بحظر النفط، بينما بقي موقف الملك ثابتاً متشدداً حيث قال له: «أنا متأكد أن إسرائيل ستنسحب في اللحظة نفسها التي تعلنون فيها أنكم لن تحموها ولن تدافعوا عنها ولن تدللوها، ولن يكون هناك سلام واستقرار إذا لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وأن تتعهد الولايات المتحدة بأنها ستتخلى عن تأييد إسرائيل إذا لم تنفذ هذه الخطوات… نحن نرى أن إسرائيل عبء على الأميركيين، إنها تكلفكم كثيراً».
هنا ذكر كيسنجر الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة بعد حرب تشرين الأول حيث قال أنهم أوقفوا إطلاق النار على الرغم من أن إسرائيل كانت تريد استمراره، كما قام بكشف قرار سري أميركي وهو وقف عمليات إرسال السلاح إلى إسرائيل، وذلك على اعتبار أنه كان سيبدأ في منتصف تشرين الثاني 1973، وأوضح أيضاً أن الولايات المتحدة ستواجه العديد من المشاكل في حال عدم قبول الملك المفاوضات وتراجعه عن قراره.
بدا الملك فيصل صارماً وجادّاً حيث جاء ردّه على كيسنجر حاسماً للموقف حيث قال له: «أقدّر توضيحاتكم المعقولة، لكني في الوقت نفسه آمل أن تقدّروا موقفنا، ما كان قرار وقف تصدير النفط قراراً فردياً من جانبنا، ولكنه كان قراراً عربياً جماعياً، نحن جزء من العائلة العربية، أريد منكم الالتزام بانسحاب إسرائيل، لأذهب إلى إخواني العرب وأقول لهم ذلك، وأريد بالإضافة إلى ذلك شيئين: أولاً السرعة، وثانياً إعلان موقفكم علناً».
أدرك كيسنجر أن لقاءه بالملك غير مثمر، حيث إنه لم يستطع أن يجعل الملك يتراجع عن قراره، وعاد خائب الأمل إلى الولايات المتحدة ليكتب مذكراته التي ذكر فيها ذلك اللقاء التاريخي وكيف بدا الملك فيصل رجلاً واثقاً في نفسه معتزاً بعروبته.
وللتذكير أيضاً، أجرت محطة «بي بي سي» البريطانية مقابلة مع الملك فيصل بعد حرب 1967، ووجّه المذيع سؤالاً: «أودّ أن أسأل جلالة الملك ما هو الحدث الذي ترغب في أن تراه يحدث الآن في الشرق الأوسط؟» فأجاب الملك فيصل بكل ثبات وعزّة: «أول كل شيء زوال إسرائيل».
وفي 25 آذار من العام 1975، اغتيل الملك فيصل في الرياض، فهل كانت عملية تصفية حساب وانتقام؟!