IMLebanon

هنا الضاحية: «المساحة العامة» ليست ترفاً

لا حديقة عامة (مركزيّة) في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. هي المنطقة التي يبلغ عدد قاطنيها، بحسب بعض التقديرات، أكثر من عدد قاطني العاصمة بيروت. العمران، كيفما اتفق، آخذ بالزحف. باتت المنطقة أشبه بقطعة أسمنت ضخمة. الاختناق البيئي لم يعد مُقبِلاً، بعد حين، نحن فيه أصلاً. ماذا فعلت بلديات الضاحية؟ الجواب: «ليس بيدنا حيلة». بيد من إذاً؟ الله أعلم

الضاحيّة قرية ريفيّة أم مدينة؟ لا هذه ولا تلك. هي شيء ثالث، هجين، ينفع لأن يكون موضوع دراسة «سوسيولوجيّة» ممتازة. ما عادت الضاحية مكاناً يصلح للعيش. عبارة يسهل التقاطها من على ألسن كثيرين من أهلها. الحديث هنا عن بقعة أرض مساحتها نحو 27 كلم مربع، يعيش عليها نحو مليون بشري، و»الحسّابة بتحسب». فوضى عمرانية، موات بيئي، ضيق نفسي، تلوّث بصري وسمعي، وقد زاد أخيراً… «زبالي».

الحديث عن الضاحية الجنوبيّة لبيروت، هل من ينكر؟

قبل أيّام قال نائب رئيس بلديّة حارة حريك، أحمد حاطوم، في حديث مع «الأخبار» عن الحدائق والمساحات العامة في الضاحية: «إن توفير حدائق عامة يأتي في إطار الترف الفكري». حمل البعض، ومنهم من أبناء المنطقة، هذه العبارة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وأرفقوها بتعليقات الاستهجان والرفض، بل والسخرية. هل من يجادل في حقهم بهذا؟ ماذا فعلت بلديات الضاحية لأهلها على مدى سنوات ما بعد الحرب الأهليّة؟ سؤال مشروع، بل واجب.

على كل حال، رئيس بلدية حارة حريك، زياد واكد، وبعدما برّر لنائبه مقولته، بأنها «سوء فهم» وحسب، يقول: «ليس لدينا أراض للبلدية، وليس لدينا المال اللازم لشراء أراض بهدف تحويلها إلى حدائق ومساحات عامة، فنحن لسنا بلديّة باريس». هكذا، لا بد لك أن تكون «باريسيّاً» حتى تنعم بحديقة عامة. الحكاية، إذاً، أكبر من رئيس بلدية هنا أو هناك. هذا ما علينا أن نصدقه. لبلدية الحارة نطاق جغرافي بمساحة 2 كيلومتر مربع تقريباً، مع قاطنين يبلغ عددهم نحو 120 ألفاً، وما من حديقة عامة واحدة. لكن مهلاً، يقول «الريّس» إن بلديته تبحث (الآن) عن أرض للشراء. الآن إذاً، الآن فيما الانتخابات البلدية على الأبواب، وفيما تشارف ولاية المجلس البلدي على الانتهاء، فإن هذه «الآن» مختلفة عن أي «الآن» أخرى. في النهاية، من حق البلديّة المذكورة أن نذكر لها أنها، بحسب رئيسها، أنجزت خلال ست سنوات: مركز مطالعة، مركز تعليم مهني، مركز رعاية صحيّة، إلخ إلخ.

ماذا عن البلديات الأخرى في الضاحية؟ إلى الغبيري در. البلديّة الأكبر والأهم، وإلى رئيسها، محمد الخنسا، شاغل المنصب منذ 18 عاماً، ولسنوات أقل في منصب «رئيس اتحاد بلديات الضاحية». سيُعدد لنا الخنسا أسماء الحدائق التي «قام» بإنشائها في نطاقه، ليتبيّن في النهاية أنّها عبارة عن «حُدَيْقات» لا حدائق. بعضها لم يسمع بها كثيرون من أهل الضاحية أنفسهم. بعضها لا يكاد يُرى، لصغرها، وهي بمساحة مئات قليلة من الأمتار. يعرف «الريّس» الحكاية جيّداً، فيقول: «فهمت قصدك، تتحدث عن حدائق عامة مركزيّة، نعم هذه غير موجودة لدينا، ولكن الآن نبحث في إنشاء واحدة في منطقة الأوزاعي وأخرى على طريق المطار». الآن إذاً، مرّة أخرى. الحاج أبو سعيد الخنسا، أيقونة بلديات الضاحية، وبعد نحو عقدين من الزمن في المنصب… ثم و»الآن». مجدداً أيضاً ستكون المسألة أكبر من رئيس بلديّة، في ظل «شماعة» لا تخيب أبداً، خلاصتها: «ليس لدينا أموال. الدولة لا تعطينا ما يكفي من أموال. فضلاً عن أنه ليس لدينا دائماً أراض نملكها». أحدهم يقول لك ليس لدينا أموال، ماذا تقول له بعدها؟ لن يكون متاحاً لك أن تعرف كم لديه أو كم صرف أصلاً، أو، وهذا الأهم، كيف صرف. إن كانت الأجهزة الرقابية، وهذه موجودة في لبنان بالمناسبة، ولديها أبنية وموظفون فعلاً، لا تعلم شيئاً، فمن بمقدوره أن يعلم؟ نطاق بلدية الغبيري يقع على مساحة قدرها 9 كلم مربع، مع قاطنين يبلغ عددهم نحو 200 ألف. هناك الكثير من الأراضي العشوائية، لكن «الريّس» يؤكد أنه «يشتري عقاراً أو عقارين كل سنة… ضمن خطة استراتيجية للأجيال المقبلة». لن ينسى الحاج في الختام أن يُذكر بالعبارة الشهيرة: «أبناء الضاحية طيّبون، وادعون، وقد ضحّوا كثيراً، ومهما فعلنا لهم فإننا نبقى مقصّرين».

اللازمة التي يكررها رؤساء بلديات في الضاحية تتمحور حول نقص المال

حسناً، ليست أزمة البيئة، والمساحات العامة، إلا واحدة من أزمات الناس مع بلديّات الضاحية. نتحدّث عن المنطقة التي أصبحت تندرج في قائمة أكثر المناطق المكتظة سكانيّاً في العالم. لكن ومع ذلك تستمر مشاريع البناء فيها، حتى أصبحت بعض شوارعها وأحيائها لا تعرف الشمس، ولكن غداً تغيب كلّها عن الشمس. باتت الضاحية عبارة عن بقعة إسمنت ضخمة، وقد كانت لا تزال، إلى ما قبل عقدين، تحتفظ ببعض بساتينها ومساحاتها الخضراء. يقول الخنسا، من واقع خبرته الطويلة هناك: «كفى سكناً في الضاحية. كثيرون أصلاً خرجوا منها إلى مناطق قريبة. يجب أن نوسّع خارجها. يجب أن ينفذ مشروع أليسار (المشروع الذي كان مخصصاً بعد الحرب الأهلية لإعادة التنظيم العمراني في الضاحية، وتعويض القاطنين في أراض خلافاً للقانون في الضاحية، لكنه لم يبصر النور). يجب أن تُعالج أزمة فوضى العمران التي انطلقت في حقبة السبعينيات. يجب يجب يجب». لكن كل هذه «الواجبات» تصطدم في النهاية بجدار اسمه: «ليس باليد حيلة».

لقد توسعت الضاحية عرفاً مع الزمن، وأصبحت تضم مناطق خارج نطاق اتحاد بلدياتها الرسمية، مثل حي السلم والشياح. أما بلديات الاتحاد الأصلية، فهي: الغبيري، حارة حريك، برج البراجنة، إضافة إلى بلديّة رابعة تضم مناطق تحويطة الغدير والليلكي والمريجة. البلدية الأخيرة يعيش في نطاقها نحو 100 ألف شخص. يرأس مجلسها سمير بو خليل. لا حدائق عامة، باستثناء ما يصرّ «الريّس» على وصفها بالحدائق، وهي من تلك التي تنفع أن تكون حدائق منزليّة لشدّة صغرها، وقد تضاءلت إلى حد الاختفاء. بو خليل مسرور بالمشاريع السكنية الجديدة التي تظهر في الضاحية، وذلك لأنها «مرتبة ومنيحة. ليس مثل عمار أيام زمان، فوضى وبلا مواصفات». هكذا، المبدأ طبقي ــ شكلي، أما مسألة أن تحتمل المنطقة مشاريع جديدة، أصلاً، في ظل غياب التخطيط العمراني ــ المدني، فهذه مسألة لا تبدو ملحوظة عنده. أخيراً، فالمهم، بحسب رئيس البلديّة، أنه أُنشئ «مركز صحي» (وهذا معظم تكاليفه كانت بهبة أجنبيّة). قبل مضي 24 ساعة على حديثنا بو خليل، كانت وزارة الصحة تُعلن «إقفال مركز الليلكي الطبي بالشمع الأحمر، لاحتوائه على مركز أشعة ومختبر غير مرخصين، والعثور فيه على أدوية ووحدات دم منتهية الصلاحية ولقاحات غير معروفة المصدر».

كل الأمم القديمة عرفت قيمة البيئة عموماً، والحدائق العامة خصوصاً، وليست «حدائق بابل المعلقّة» في بلاد ما بين النهرين، أو حدائق بلاد فارس الأسطوريّة، إلا مجرّد نماذج. أما الأمم الحديثة، بعيداً عن بلادنا، فالأمر أظهر من يُحكى عنه. أخيراً، قد يكون من المناسب التذكير بالحديث النبوي، الوارد عند مختلف الفرق الإسلاميّة، باختلاف اللفظ، وفيه: «إذا قامت قيامة أحدكم وكان بيده فسيلة… فليغرسها».

الانفصال عن الطبيعة و«المجال العام»

على سبيل الاستئناس بدراسات وأبحاث حول الأثر البيئي على الكائن الحي عموماً، والإنسان خصوصاً، فالشرط الإنساني في «الفلسفة الإيكولوجيّة» (البيئيّة) عند هنريك سكوليموفسكي، يتلخّص في «العناية بالبيئة والعودة إلى الطبيعة». في قناعته أن معاناة الإنسان الحديث متولدة من انفصاله عن الطبيعة واستقراره في المدن الملوثة، ليخلص إلى أنه: «يلوح لنا منطقيّاً وجود سياقين مختلفين منخرطين في الأمر: الإمعان في ارتياد العالم المادي، من جهة، والزوال البطيء للقيم الإنسانيّة الجوهرية، من جهة أخرى». نعم، إلى هذا الحد. صحيح، أنّ الموضوع لا يحتمل الكثير من الفلسفة، ولكنها إشارة لا بد منها للتدليل على أهميّة البيئة والطبيعة (بما في ذلك الحدائق العامة) في حياتنا، وأنها، أبداً وقطعاً، ليست مجرّد «ترف فكري».

ويُشار إلى أن الحدائق العامة ليست إلا أحد أشكال «المجال العام» (بحسب الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس). هنا يتعدّى موضوع الإطار البيئي التقليدي، إذ تُمثّل «المساحة العامة» المكان الذي يمكن من خلاله تكوين ما يقرب من الرأي العام، إذ يجتمع الناس، على اختلافهم، ليتناولوا حاجات المجتمع من الدولة، أو السلطة. إضافة إلى ذلك، تحصل استفادة الناس في المجال العام من خلال «تفعيل عقلانيتهم وتفكيرهم في مناقشة القضايا العامة، بعيداً عن أطر السلطة والرقابة».