IMLebanon

حكومة مفخّخة بحقيبة متفجّرات

 

أن تتحوّل أزمة تشكيل الحكومة إلى تمسّك “حزب الله” وحركة أمل بوزارة المالية وبتسمية الوزراء الشيعة واختيار الحقائب فهذا يعني أن الثنائي الشيعي يعاني من أزمة لا تنفصل عن الأزمة الأكبر التي تمرّ بها التركيبة الحاكمة بتحالفهما مع التيار الوطني الحرّ. هذه الأزمة لا تأخذ بالإعتبار الوضع العام المنهار. وكأنّ تلك الحقيبة الوزارية باتت الحقيبة المفخخة التي يمكن أن يكون انفجارها أكبر من انفجار المرفأ. فهل بات مصير “حزب الله” معلَّقا على حقيبة؟

 

في العام 1992 واجه حزب الله مسألة الإنتقال من السرّية إلى العلنية. بات له أمين عام معلن ومعروف هو السيد عباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل في 16 شباط 1992 بواسطة طوافة عسكرية ليحلّ محلّه وبطريقة معلنة أيضا السيّد حسن نصرالله الذي لا يزال في موقعه منذ ذلك التاريخ.

 

حزب الله والدولة والشرع

 

في ذلك العام أيضاً اعترضت الحزب مسألة المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية لناحية الترشّح إلى الإنتخابات النيابية وما إذا كانت هذه المسألة جائزة دينياً وشرعياً. صدرت الفتوى بالقبول وشارك الحزب في الإنتخابات التي كان يديرها النظام السوري ويوزِّع فيها الحصص ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج من ساحة النجمة.

 

نتيجة اتفاق دمشق الذي أنهى الحرب يين حركة أمل و”حزب الله” في العام 1990 كان هناك تفاهم على أن يبقى “حزب الله” محتفظا بسلاحه بينما تحتفظ حركة أمل في المقابل بتمثيل الشيعة داخل الدولة والإدارات الرسمية. ولذلك لم يتمثّل الحزب مباشرة في الحكومات التي تشكلت حتى العام 2005. في الحكومة التي تشكلت برئاسة عمر كرامي مثلا بعد التمديد للرئيس أميل لحود واعتذار الرئيس رفيق الحريري تولّى الياس سابا وزارة المالية وتمثّل الشيعة بستة وزراء هم محمود حمود للخارجية وياسين جابر للأشغال العامة والنقل ومحمد جواد خليفة للصحة وغازي زعيتر للشؤون الإجتماعية وعاصم قانصوه للعمل ووفاء الضيقة وزيرة دولة.

 

ليس اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 هو الذي بدّل في مقاربة الحزب لهذه المسألة بل انسحاب جيش النظام السوري في 26 نيسان. عندما اصبح الحزب وحيداً في الساحة اللبنانية قرّر أن يكون داخل الحكومات. حاول مثلاً أن يفرض بقاء حكومة الرئيس عمر كرامي ولكنّ الأخير قدّم استقالته تحت ضغط الشارع في 28 شباط. حاول الحزب أن يفرض إعادة تكليفه. سمِّي ولكنه عاد واعتذر. على رغم أنّ الأكثرية النيابية وقتها كانت من صناعة سورية وعلى رغم أنّ رئيس الجمهورية في بعبدا كان من صناعة سورية أيضًا فإنّ الحزب ذهب اضطرارياً لتمرير المرحلة نحو خيار حكومة انتقالية برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي على أساس أن تعمل لتمرير الإنتخابات النيابية. في هذه الحكومة التي ضمت 14 وزيراً تولى الدكتور دميانوس قطار الماروني وزارة المالية وتمثّل الشيعة بثلاثة وزراء هم محمود حمود للخارجية ومحمد جواد خليفة للصحة والشؤون الإجتماعية وطراد حماده للزراعة والعمل. والأخير كان يمثل “حزب الله” مباشرة ولو لم يسجّل له أنّه من صلب القاعدة الحزبية. إلى ماذا يدلّ هذا الأمر؟ إلى أن وزارة المالية لم تكن ميثاقية وقتها بالنسبة إلى التوقيع الشيعي على قرارات مجلس الوزراء والمراسيم التي تقتضي ذلك وإلى أن “حزب الله” كان منشغلًا أكثر بتمرير المرحلة واستيعاب نتائج الإنسحاب السوري ومسألة بدء التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري والبحث عن تسوية انتخابية تتعلق بقانون الإنتخابات وبالترشيحات والتحالفات.

 

بين الثلث والثلثين

 

في انتخابات 2005 حصلت قوى 14 آذار على الأكثرية النيابية. كان من الطبيعي أن تسمّي الأكثرية رئيس الحكومة الجديد. لم يرفض “حزب الله” أن يكون الرئيس فؤاد السنيورة. في تلك الحكومة المؤلّفة من 24 وزيراً تولّى جهاد أزعور الماروني وزراة المالية وتمثّل الشيعة بخمسة وزراء هم فوزي صلّوخ للخارجية ومحمد جواد خليفة للصحة وطلال الساحلي للزراعة ومحمد فنيش للطاقة وطراد حماده للعمل. كانت هذه الحكومة هي الأولى التي يتمثّل فيها “حزب الله” بوزير حزبي هو محمد فنيش وآخر محسوب عليه. ولكن لم تكن هناك استحالة تمنع التأليف لا في مسألة وزارة المالية ولا في مسألة الثلث المعطّل. كانت تلك الحكومة نقطة تحوّل كبرى بين ما قبلها وما بعدها. فشل الحزب في إسقاطها من الخارج عبر الحصار الذي فرضه مع تيار العماد ميشال عون حول السراي، ومن الداخل بعد استقالة الوزراء الشيعة ولذلك ذهب إلى خيار الإنقلاب العسكري في 7 ايار 2008 الذي أدّى إلى تسوية الدوحة. هذه التسوية التي شملت انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة لم يضع فيها حزب الله شرطًا معطّلا من خلال رفض تكليف الرئيس السنيورة مرّة جديدة على رغم كل الإشكال الذي حصل معه في الحكومة السابقة. لماذا لم يقل الحزب إنّه لا يقبل بالسنيورة؟ لأنّه في الدوحة حصل على تنازل يقضي بأن يكون له مع التيار الوطني الحر الثلث المعطّل الذي تمّ تمريره من خلال ما سمي الوزير الملك. في هذه الحكومة الثلاثينية تولّى الوزير السنّي محمد شطح وزراة المالية بينما تمثّل الشيعة بستة وزراء هم فوزي صلوخ وغازي زعيتر ومحمد جواد خليفة وعلي قانصوه وابراهيم شمس الدين ومحمد فنيش الذي كان وحده يمثّل الحزب.

 

كان الحزب مع تيار عون يراهنان على نتائج انتخابات 2009. ولكن تلك الإنتخابات أعطت الأكثرية أيضًا لقوى 14 آذار. تشكّلت الحكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري الذي فاز في الإنتخابات وكانت ثلاثينية وأعطيت فيها وزراة المالية لريّا الحسن السنّية بينما تمثّل الشيعة بستة وزراء من بينهم وزيران لـ”حزب الله” هما حسين الحاج حسن ومحمد فنيش. كان الثلث المعطل مع التيار الوطني الحر هو الكفيل بالإفراج عن تلك الحكومة وهذا الثلث هو الذي أسقط الرئيس سعد الحريري وهذه الحكومة في 12 كانون الثاني 2011.

 

حكومة اللون الواحد التي تشكّلت برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي تولّى فيها النائب محمد الصفدي السنّي وزارة المال. لم يتمسّك فيها الثنائي الشيعي بحقيبة المال وتنازل عن حقيبة شيعية لمصلحة وزير سني سابع. أكثرية الثلثين التي كانت بيد تحالف “حزب الله” وعون لم تمنع هذه الحكومة من السقوط المدوي. التجربة أظهرت أن لا الثلث المعطل ولا أكثرية الثلثين بإمكانهما أن يشكلا ضمانة لحماية الحزب. أصلا هل الحزب هو الذي يحتاج إلى هذه الحماية بينما يمتلك هذه القدرة العسكرية والصاروخية الهائلة متولّياً اتخاذ قرارات الحرب والسلم متخطيا وجود الشرعية والدولة؟

 

في حكومة الرئيس تمّام سلام عام 2014 تولّى علي حسن خليل وزراة المالية. اعتباراً من هذا التاريخ سيتمسّك الثنائي الشيعي بهذه الحقيبة على أساس أنها تؤمّن الميثاقية وتضمن التوقيع الشيعي الثالث على المراسيم التي تصدر عن مجلس الوزراء وتحتاج في معظمها إلى اقتران توقيعي رئيسي الجمهورية والحكومة والوزير المختص بتوقيع وزير المال نظراً لأنّ هذه المراسيم ترتّب أعباء مالية على الخزينة.

 

بعد انتخاب عون

 

بعد انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية لم يتخلَّ الثنائي عن هذا الأمر لا في الحكومة الأولى التي تشكّلت برئاسة الرئيس سعد الحريري ولا في الحكومة الثانية التي ترأّسها الحريري ايضًا بعد انتخابات 2018. لم يطمئن الحزب خصوصا إلى أن الأكثرية النيابية باتت في يده مع حلفائه أراد أن تكون هناك ضمانات واقية على أكثر من مستوى. الثلث المعطل ووزارة المالية واختيار الحقائب وتسمية الوزراء. ولكن كل ذلك لم يمنع حكومة الرئيس سعد الحريري من السقوط بعد ثورة 17 تشرين ولا منع حكومة “حزب الله” برئاسة الرئيس حسّان دياب من السقوط بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي.

 

اليوم يقف “حزب الله” وحركة أمل والتيار الوطني الحر أمام مفترق طرق. في ظل العقوبات الأميركية المفروضة على الحزب وإيران والنظام السوري شكلت المبادرة الفرنسية التي قادها الرئيس إيمانويل ماكرون خشبة خلاص للبنان والعهد و”حزب الله”. الحزب الذي طالما كان يهدّد بالردّ على إسرائيل واجتياز الحدود نحو تحرير الجليل الفلسطيني ويؤكّد توازن الرعب والردع الإستراتيجي وجد نفسه مقصّرًا في تلبية رغباته. منذ اغتيال قائده العسكري عماد مغنية في العام 2008 في سوريا لم يستطع الرد. تم اغتيال قائده الثاني مصطفى بدر الدين ولم يرد بالمثل. تم اغتيال اللواء الإيراني قاسم سليماني ولم يستطع أمينه العام تنفيذ ما هدّد به لجهة طرد الجيش الأميركي من المنطقة. لذلك عندما قبل الحزب بحبل النجاة الذي مدّه ماكرون كان يعرف ما تتضمّنه المبادرة الفرنسية وماهية الحكومة المطلوبة وعدم مشاركة أي مكوّن سياسي فيها مع المداورة في الحقائب. رئيس الجمهورية كان في هذا الجو وكذلك رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. لماذا عاد “حزب الله” مع الرئيس بري إلى مربع الشرط المعطل من خلال محاولة فرض الحصول على وزراة المال واختيار الحقائب الشيعية والوزراء الشيعة؟

 

ربّما أدرك الحزب متأخرًا أنّ مبادرة ماكرون لم تكن إلّا محاولة لدسّ السمّ في العسل وأنّها وإن كان يمكن أن تنقذ لبنان من الإنهيار فإنّها لا يمكن أن تشكّل حبل نجاة له ولذلك عاد مع الرئيس بري إلى مربع الدفاع الذاتي عبر التمسك بحقيبة المالية وتسمية الوزراء واختيار الحقائب في تجاوز كامل للأعراف والدستور.

 

بهذه الطريقة يفخّخ الثنائي الشيعي الحلّ الفرنسي ويجعل حقيبة المالية حقيبة متفجرة يمكن أن تنفجر لتقضي على ما لم يستطع انفجار المرفأ والإنهيار التام أن يقضيا عليه. هل يتحمّل رئيس الجمهورية مثل هذا الأمر؟ هل يقدم الرئيس المكلف مصطفى أديب تشكيلة حكومية بعيداً عن شروط الثنائي الشيعي؟ هل يوافق عون عليها ويوقِّع وهو القائل “يستطيع العالم أن يسحقني ولكنه لن يأخذ توقيعي؟ ربما يواجه الثنائي الشيعي اليوم معادلة “حكومة مصطفى أديب أو الفوضى” كما واجه المسيحيون في العام 1988 معادلة “رئاسة مخايل الضاهر أو الفوضى”. تجربة الخيارات المسيحية كانت صعبة ومكلفة. تجربة الخيارات الشيعية ليست بعيدة عن مثل تلك النهايات. الجامع المشترك أن الرجل المقيم في بعبدا هو نفسه. والمسألة واقفة على توقيع.