IMLebanon

لبنان الحياد أو كونفدرليات الجحيم

 

صبيحة 1860 انهمر الحقد على جبل لبنان حاصداً آلاف الأبرياء ولم تشرق الأنوار إلّا مع انتشار آلاف من الجنود الفرنسيين والانكليز، وإسقاط نظام القائمقاميتين، والإنتقال إلى نظام سياسي جديد عرف بالمتصرفية.

جذب هذا النظام المستثمرين الفرنسيين والإقليميين، فكان امتياز مرفأ بيروت ومعه سكك حديد ربطت بيروت بالمشرق، وقطعت الطريق على الإنكليز بضياع جهودهم للاستحواذ على مرفأ حيفا في فلسطين للارتباط بدمشق. وتبعه امتياز التراموي والكهرباء وغيرها الكثير، مما جعل من بيروت نقطة ثقل اقتصادية وسياسية واجتماعية ساهمت في ولادة لبنان الكبير.

 

وها نحن اليوم وفي نفس الجغرافيا، في 4 آب الماضي كرّر الجشع والفساد نفس المجزرة بحق الإنسان، وشهدنا إثرها إبرار القطع البحرية الفرنسية والإنكليزية، واندفاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مُبادراً لطرح عقد سياسي جديد، يمهّد له بخطة إنقاذ اقتصادية. والملفت تكرار نفس الإطار الإقليمي التنافسي الاقتصادي مع مرفأ حيفا، بحيث تسعى إسرائيل مكان الانكليز وبعد 160 سنة هذه المرة، لتجعل من مرفأ حيفا بوابة الخليج العربي، وبأن تلعب دور لبنان الاقتصادي والاجتماعي والجيوسياسي. فها هي مصارفها وموانئها وخطوط سككها الحديدية الاستراتيجية وسياحتها تتهيّأ على وقع انهيار لبنان الشامل وانسلاخه عن مداه الاقتصادي الخليجي التاريخي، وأنغام مشهدية دومينو التطبيع لكي تصبح مضرب خيام العرب بديلاً عن لبنان،

 

وببركة العرّاب الاميركي، لِما في ذلك من مكاسب له طويلة الامد في حربه التجارية مع الصين.

 

فهل ينجح ماكرون بإعادة فرنسا الى الخارطة المتوسطية من بوابة إعمار بيروت وتفرده بإنقاذ لبنان؟

 

من هنا، لا بد من قراءة بين السطور في حدثين:

 

الأول، لقاء القمة بين الرئيسين روحاني واردوغان أوائل هذا الشهر، وما نتج عنه من تفاهمات حول التعاون الاقتصادي والمصالح الإقليمية المشتركة، وسَعي البلدين للتوسّع عبر استنهاض امبراطوريات الأجداد على حساب الهلال الخصيب ونجمته قبرص.

 

والثاني، القمة الأوروبية في كورسيكا التي حاولت فرنسا عبرها أن توحّد أوروبا المتصدعة في وجه تركيا اردوغان، وتشكيل موقف حازم يكبح جماح تركيا التوسّعي.

 

وفي الحدثين جامع واحد وهو احترام الإرادة الاميركية بدفع المنطقة إلى الحوار تحت ضغط المواجهة، لتشكيل شرق أوسط جديد تعددي، مفاتيح بواباته وثرواته النفطية في يدها وحدها فقط، ممّا يجعل طريق الحرير الجديدة في جزئها المشرقي تحت سيادتها الكاملة.

 

وعليه، يصبح من الصعب البدء بإعادة بناء مرفأ بيروت ومحيطه الحيوي، وتنفيذ أي إصلاح او إنقاذ اقتصادي بنيوي، قبل التفاهم الدولي والاقليمي على دور لبنان وهويته في المنطقة تحت المظلة الأميركية.

 

ومن هنا، فهل يكون لبنان ساحة الحرب الباردة في الشرق الأدنى أو مساحة حياد إيجابي، حوار وسلام؟

 

وما هو موقف اللبنانيين من الدور الجديد الذي يحتّم صيغة سياسية واقتصادية جديدة لها انعكاساتها الاجتماعية البنيوية على هوية لبنان الحضارية؟

 

إنّ اعتماد لبنان ساحة للصراع يحتّم زواله بصيغته التعددية الحالية، وخاصة بعد تفكك بنيته الاقتصادية والمصرفية، وانكشافه أمنياً أكثر فأكثر نحو المجهول، فهل تعيدها فرنسا وتتدخل عسكرياً بحجة حماية المسيحيين، ‎‎‎‎على قاعدة الواقعية السياسية، للتعامل مع ما تبقّى، وتثبيت قاعدتها في شرق المتوسط في متصرفية مارونية جديدة لا تتعارض مع المشروع الاميركي للفوضى الخلّاقة للشرق الأوسط الجديد؟

 

أما إذا توافقت القوى الدولية والاقليمية بأن يكون لبنان محايداً عن صراعات الاخوة، فهل يبني اللبنانيون هذه المرة وطن الحرية والعدالة في شرق مظلم على غرار ما فعلوا من بيروت سنة 1861، بتكافل الجميع، حين نجحوا بالتفاعل مع صيغة المتصرفية الحيادية، والتي كانت واحة حرية فكرية واقتصادية في السلطنة العثمانية، وأسهمت في نهضة اللغة العربية ومهّدت للبنان الكبير بوابة المشرق؟ أم أنهم سيسقطون ويستسلمون امام أحلام أحفاد سليمان بإعادة بناء هيكله مرة أخرى من أرزنا كما فعل جدّهم حيرام ابيف ملك صور؟

 

ومن هنا يأتي توقيت العقوبات الاميركية على “حزب الله” وحلفائه من السياسيين، ورجال الأعمال، في ظل هذا التشرذم الداخلي والانهيار المالي والاقتصادي والتحلل الاجتماعي، ضابطاً لخارطة الطريق الانقاذية الفرنسية، وسيفاً ذي حدين فيضع زعماء الحكم أمام خيارين اثنين:

 

الأول، إنجاح مبادرة ماكرون التي تنقذهم من العصا الاميركية، وتجنّب البلاد تداعيات الانهيار الاقتصادي الكبير، الذي سيودي بالجميع إلى التهلكة، والذهاب إلى الإصلاح الاقتصادي، ومن بعده لَبننة “حزب الله” ضمن سلّة مكاسب لكي لا يلقى نفس المصير الذي واجهته “القوات اللبنانية” سنة 1994.

 

وهذا يتطلب من الجميع لبننة الحوار، والخروج من فلك التأثير الاقليمي المباشر، ومن هنا يكون طرح البطريرك الراعي للحياد ينقذ الجميع وأوّلهم الجناح اللبناني لـ”حزب الله” الذي يبدو لليوم شديد الحذر، رغم ضيق الوقت.

 

والثاني، وهذا ما نشهده لليوم عبر إضاعة الوقت وعرقلة كل الجهود الفرنسية وانعزال الثنائي الشيعي ومن تبقّى من الحلفاء، تحت وابل العقوبات في إماراتهم الاقطاعية الطائفية معتمدين على صمت الناس وتكافلهم العائلي في وجه الفقر والجوع، إلى حين نضوج المفاوضات الأميركية الإيرانية المتشنجة، مما يؤمّن لهم، بنظرهم، ريادة سياسية واقتصادية تحت أي صيغة دستورية للبنان الجديد في المستقبل.

 

ولكن ماذا لو أعاد التاريخ نفسه من جديد كما في مسألة الخيارات وقراءة المنطقة، كالتي حصلت في مؤتمر وادي الحجير الذي عقد في 24 أيار من العام 1920، والذي ما زال قابعاً في تداعياته لليوم والتي رسمتها ثنائية إقطاع كامل بك الأسعد من جهة، وسلاح صادق الفاعور وأدهم خنجر من جهة أخرى في لحظة تاريخية شبيهة؟

 

وماذا لو كان لبنان ثمن الملف النووي الايراني؟

 

ماذا لو كان لبنان، المُنهك على المثال الفينزولي، هو ضمانة لصفقة القرن لتأمين ريادة النموذج الإسرائيلي في المنطقة، واستقرار ايران؟

 

وماذا لو اندرجت أعمال شركة توتال في البلوك 4 وترسيم الحدود مع إسرائيل في البلوك رقم 9 ضمن البحث حول جدوى إبقاء لبنان موحداً؟

 

من هنا علينا جميعاً أن نضع لبنان الشراكة والمحبة، وطن الإنسان الحر في روحية أي رؤية إنقاذية، وإلّا علينا الاستعداد لهبوط غير آمن للبنان الكبير، قد نصبح بعده فلسطين ثانية هوية من دون وطن. يا وطني إشهد أنّي قد بلّغت.