IMLebanon

ثوابت حزب الله: لا مسّ بالسيادة ولا بقدرة الردع

 

 

على وقع رفض المستوطنين العودة إلى المستوطنات القريبة من الحدود مع لبنان قبل إبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، تفتَّق العقل الأمني السياسي في كيان العدو عن إعلان وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت تشكيل «مديرية أفق شمالي»، ضمن وزارة الأمن، مهمّتها «تحسين المكوِّنات الأمنية في البلدات الشمالية، بما في ذلك زيادة مجموعات الجهوزيّة وتسليحها، وتحصين المستوطنات التي تبعد حتى مسافة 9 كلم عن الحدود مع لبنان…»، إضافة إلى نشاطات موازية تتعلق بتعزيز البنى التحتية لإرضاء مستوطني الشمال. وأعقب غالانت هذه المواقف في مناسبة أخرى، ايضا بالتأكيد على أنه سيتم ابعاد حزب الله الى ما وراء نهر الليطاني «سواء بتسوية سياسية أو بتحرك عسكري».وبرّر وزير الأمن الإعلان، بعد جلسة «تقدير وضع» حول الجبهة الداخلية، بتعقيدات الوضع في الشمال، ولإنتاج ظروف تسمح بإعادة «السكان» إلى «منازلهم» لاحقاً. ومع أنّ الشرح الذي قدّمه اتّسم بالعمومية، إلا أنه كان كافياً للإشارة إلى إدراك قيادة العدو ضيق الخيارات ومخاطرها. فالحديث عن تعقيدات الوضع في الشمال ناشئ عن فشل إسرائيل حتى الآن في ثني حزب الله عن خيار دعم غزة، لتجد نفسها أمام خيارات دراماتيكية تحرص حتى الآن على تجنّبها.

وسبق أن لقيت مواقف غالانت ردوداً غاضبة من المستوطنين عندما اعتبر أن ما حققته اسرائيل في الميدان يشكل انجازات «تشكّل وضعاً مختلفاً يسمح بعودة السكان». فيما اتهم معلقون غالانت بأنه «قدّم عرضاً كاذباً عندما ادّعى أن حزب الله أُبعد ثلاثة كيلومترات من السياج. (في حين أنّ) الحقيقة معاكسة: إسرائيل هي التي هربت من الخط الحدودي لمنع إلحاق الأذى بشعبنا». وكتبت صحيفة «إسرائيل اليوم» (5/12/2023) أن «الصحيح، حتى هذه اللحظة، هو أن حزب الله لا يزال قادراً على استهداف إسرائيل بتشكيلات الصواريخ وقوة الرضوان. وعلى هذه الجبهة، إنجازات إسرائيل أكثر محدودية».

وتكشف الديناميّات السياسية والشعبية في المستوطنات المتاخمة للحدود مع لبنان عن عمق الأزمة التي تسبّب بها حزب الله لكيان العدو، وحجم الضغوط على مؤسسة القرار السياسي والأمني، وتؤشر إلى تحدٍّ تواجهه المنظومة القيادية حول الخيار الواجب اتباعه في هذا المجال. ونتيجة ذلك، لم تغب التهديدات الإسرائيلية للبنان عن ألسن قادة العدو السياسيين والأمنيّين منذ بداية الحرب. وتصاعدت هذه التهويلات في الأسابيع الأخيرة بالتزامن مع نشاط سياسي وديبلوماسي فرنسي للضغط على حزب الله. فحذّر وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، من أنّ «بيروت ستبدو مثل غزة» في حال لم يُبعَد حزب الله عن الحدود، من دون أن يتطرّق إلى حجم الردّ الذي ستتلقّاه إسرائيل، وهو ما قيّد العدو طوال السنوات الماضية عن أيّ خيار من هذا النوع.

معادلات أميركية اسرائيلية عقيمة لاحتواء ضغط المقاومة

 

ولقيت هذه المساعي دعماً اضافياً من الولايات المتحدة. إذ كشفت تقارير اسرائيلية أن الادارة الأميركية تدرس امكانية الدفع نحو عملية سياسية تمنع توسع الحرب في المنطقة، وتؤدي الى ابعاد حزب الله بشكل دائم عن المنطقة الحدودية من خلال وسائل دبلوماسية «قوية وفعالة»، وذلك «حتى لا تضطر إسرائيل إلى شن حملة عسكرية على الحدود الشمالية».

 

وفي هذا السياق، يمكن تسجيل أن مطلب إبعاد حزب الله الى ما وراء الليطاني يكشف عن حجم الضغط الميداني للمقاومة على مؤسسة القرار السياسي والامني في تل ابيب وواشنطن، ما دفع تل أبيب إلى الاستعانة برعاتها وداعميها الدوليين لتحريك هذا الملف من دون انتظار انتهاء الحرب. ومن الواضح أن الاداء الاميركي يحاول تثمير التهويل الاسرائيلي للضغط على لبنان والمقاومة، عبر الايحاء بأن الخيارات هي بين القبول بالتسوية التي يعمل عليها أو الحرب.

من جهة أخرى، تحول المطلب الإسرائيلي بإبعاد قوة الرضوان الى ما وراء نهر الليطاني أمراً ملحّاً على وقع مفاعيل «طوفان الأقصى»، بعدما ثبت عدم إمكان الرّكون إلى قوة الجيش لصدّ أي هجوم مفاجئ على منطقة الجليل، وبعد تقوّض الثقة بالاستخبارات وقدرتها على اكتشاف التهديد. وكجزء من استخلاص العبر، يحاول العدو استبدال إستراتيجيته السابقة بصيغة أكثر تطرفاً، على جبهة غزة، عبر رفع شعار اجتثاث التهديد في القطاع وعدم السماح بإعادة تشكّله وتطوّره. إلا أنّ العدو لم يرفع شعارات سبق أن تناولها في محطات سابقة، في مواجهة حزب الله، بعدما ثبت استحالة تطبيقها، كنزع سلاح المقاومة وما شابه… بل اقتصر على مطلب إبعاد الحزب عن الحدود، ما يشير إلى إدراكه للقيود المانعة لذلك. علماً أنه لا ولن يجد حلاً – في الحد الادنى – لكيفية إبعاد أعضاء قوة الرضوان الذين ينتمون الى القرى والبلدات الواقعة جنوب النهر!

في المقابل، أظهرت مواقف حزب الله أنه لن يسمح بأيّ ترتيب يمسّ بالسيادة اللبنانية، ومن المسلّم به أنّه لن يسمح بأيّ أمر يُضعف قدرة المقاومة على الدفاع والرّدع، فضلاً عن أنّ توقيت الطرح وأهدافه المتّصلة بالحرب الدائرة ومتعلّقاتها، كافٍ للدوس عليه في هذه المرحلة.

من الواضح أنّ العدو يحاول استغلال صورته كثورٍ هائج لا يقف عند خطوط حمراء في ارتكاب المجازر والتدمير، ولا يوجد من يبادر إلى كبحه. ويحاول الطرفان الاميركي والفرنسي استغلال هذه الصورة وتوظيفها في هذا السياق. إلا أنّ أداء حزب الله يكشف أيضاً أنّ هذا التهويل لم يردعه عن تحويل جبهة الحدود إلى معركة قاسية يتساجل فيها الطرفان في الميدان ضمن قواعد أملتها المقاومة، رغم الدعم الأميركي التام للسياسة العدوانية الإسرائيلية.

ويكشف هذا الواقع الميداني عن حقيقة وعمق قوة ردع المقاومة التي منعت العدو، حتى الآن، من استهداف واسع للعمق اللبناني كما هو ديدنه في مثل هذه المواجهات، وحتى من خيار التلويح العمليّاتي الذي يتجاوز الألفاظ لإشعار حزب الله بأن إسرائيل على وشك تكرار سيناريو غزة.

في ضوء ما تقدم، تواجه قيادة العدو تحدّي بلورة خيار عملياتي عدواني ناجع في مواجهة لبنان، يهدف إلى طمأنة المستوطنين من أجل عودتهم إلى مستوطناتهم. ينبع هذا التحدي من أنّ أيّ محاولة لترجمة التهديدات المعلنة من قبل قادة العدو ستؤدي إلى نتيجة معاكسة وأكثر خطورة، وهي التضحية بأمن المستوطنات والمدن الأكثر عمقاً، وإلى استهداف نقاط إستراتيجية على مسافات وبأحجام تتناسب مع طبيعة أي عدوان إسرائيلي مفترض وحجمه وعمقه. وتُظهر هذه المعادلة منشأ تعقيدات جبهة لبنان التي أشار إليها غالانت، والتي تدفع قادة العدو إلى اعتماد العقلانية حتى الآن، نتيجة ضيق الخيارات وارتفاع منسوب المخاطرة.