IMLebanon

«ضَربني وبكى… سبَقني واشتكى»

فوجئتُ ببعض الصُحف الصديقة للجنرال ميشال عون، كما الأقلّ صداقةً وصولاً إلى تلك الأكثر خصومةً، كلّها تتّفِق على أنّ ما يقوم به الجنرال قد يؤدّي إلى الدخول في المجهول، وعاد إلى الواجهة موضوع قهرِ أهلِ السُنّة والتعَدّي على الطائفة السُنّية الكريمة وحقوقِها، وباتَ مِن الواضح أنّ الحوارَ في السياسة لن يُعطيَ النتيجة المطلوبة، فكلّ الأطراف جاهزة بردودِها «الكليشيه» المعتادة، حتى تُضَيّعَ الحقائقَ ويضيعَ معها الشعب التوّاق إلى استتناجٍ منطقيّ في مواضيع العدالة والحقوق.

مِن هنا أرَدتُ الابتعاد عن قياس العدالة بميزان السياسة المتقلّب، لأنظرَ إليه من زاوية أخرى، زاويةٍ لا تقبَل الجَدل، أردتُ أن أنظرَ إلى الحقوق والعدالة من الزاوية الاقتصادية. فلننظرْ إلى الجزُر والجمهوريات المسيطَر عليها من فريق سياسي معيّن وكيف يستحيل التقيّد بالقوانين المرعيّة الإجراء في هذه الجمهوريات الطائفية، وهي الدليل الأقوى على انعدامِ العدالة والشراكة في وطنٍ تحَوّلَ إلى جمهوريات الطوائف لا أكثر.

ومِن هذه الجمهوريات، جمهورية السوليدير، المستقلّة عن الدولة، والممنوعة عن المساءَلة والمحاسبة، وآخرُها حائط السان جورج الذي زرعَته زَرعاً على الملك العام، بالإضافة إلى هدرِ حقوق لأصحاب الوسط، وأراضي مردومة كان مِن المفروض أن تتحوّل مُلكاً عامّاً قيمتُها أكثر مِن 15 مليار دولار، وعدم مساءلة عن الأرباح والأعمال التي نفّذَتها في الوسط، وعدم قدرة أحد على مجرّد التفكير في فرضِ ضريبةٍ على الشركة لصالح الخزينة العامة.

وننتقل إلى المطار، الجمهورية المعزولة، حيث إذا تجَرَّأ وزير على السؤال عن أيّ تفصيل يخصّ المطار تحَوَّل سؤالُه جريمةً قومية وانتهاكاً لأملاك خاصة، ففئة سيطرَت بالكامل على أعمال تاكسي المطار والحمّالين وأصدقاء الحمّالين، ولغَضّ نظرِ القوى الأمنية الموجودة يَفتح بعضُها دكاكين خدمات للمسافرين واستقبالات للمسافرين، فيما سيطرَت فئةٌ أخرى على السوق الحرّة، في حين تنصّ العدالة على أن تكون حصّة الدولة منها أقلّه عشرة أضعاف ما هي عليه الآن، والعدالة أيضاً اقتضَت أن ترفض حكومتا الحريري وميقاتي مناقشة الموضوع رفضاً قاطعاً.

وحتى حكومة سلام لم تَفتح الملف، عِلماً أنّ عَقد الـ 15 عاماً انتهى، والمعروف أنّ فترة العقدِ كان مطعوناً بها في الأساس. فإذا اعتبرنا الدولة مالكة (Mall المطار) أي السوق الحرّة، فيجب على المشغل أن يدفعَ أقلّه 30 في المئة من المبيعات كما هو معمول به في كلّ مطارات العالم.

أمّا الطيران المدني فهو من حصّة الفريق نفسِه يُخالف القرارات وخصوصاً قرار مجلس الوزراء عام 2002 الذي أقرّ سياسة الأجواء المفتوحة، بما يُعرّض الدولة إلى دفع تعويضات بمئات الملايين من الدولارات ويَحرم المغتربين من المجيء إلى لبنان بأسعار تنافسية، وما زالت المخالفات مستمرّة إلى اليوم وأسأل أين العدالة في كلّ هذا؟

وأسأل عن عدالة مرفأ بيروت بجباية ضرائب سيادية بأكثر من 200 مليون دولار سنوياً، تصرفها على كيفِها وتنَقّط الدولة إيرادات ضئيلة، وتقوم بمشاريع من دون المرور بمجلس الوزراء.

وعندما اجتمعَت الاحزاب المسيحية في بكركي في محاولة يائسة لإيقاف المشروع بعدما أقفِلت كلّ الأبواب، بدأ الهجوم على بكركي وتدخّلها بما لا يعنيها، مشروع اقتصادي لا مبرّر له تمّ اختراعه لصرفِ مالِ الخزينة في وقتٍ نحن بأمسّ الحاجة إلى كلّ قرش فيه ولا حاجة لتنقيذه أبداً في الوقت الراهن.

وحاولتُ شخصياً وبتكليف من الجنرال عون بحثَ الموضوع مع الرئيس تمّام سلام الذي كان مقتنِعاً بعدم عدالة هذه التركيبة، لكن في الوقت نفسِه يَعرف عدم إمكانية المسّ بالتركيبة القائمة، حتى إنّه سألني لماذا تريدون تغييرَ طريقةِ إدارة المرفأ في عهدي، فكان جوابي لأنّنا نَعتبرك رجلاً نظيفَ الكفّ، هذه التركيبات التي مِن المستحيل أن نجدَ مثيلاً لها في العالم. وإذا نَظرنا إلى حجم التقديمات للمحاكم الروحية عند الطوائف نعرف أنّ العدالة منقوصة حتماً.

عندما قرّرتُ الكتابة عن هذا الموضوع أصابني القرفُ ممّا أكتبه، لأنّني ضدّ تقسيم البلد على أساس طائفيّ، وضدّ أيّ تحريض طائفي، ولكن فقط لأظهِرَ أنّ العدالة المتوخّاة بعيدة كلّ البُعد عن التركيبة اللبنانية وأنّ السياسة المعتمَدة في الأعوام العشرين الأخيرة لم تكن عادلة، الفلسفة المعتمدة كانت بتحويل المارونية السياسية إلى سنّية سياسية من جهة وشيعية سياسية من جهة أخرى، وهي وقعَت في الأخطاء نفسِها التي وقعت فيها المارونية السياسية، وأصبح الموضوع مَن يستطيع أن يحصلَ على قطعة أكبر من قالب الجبنة، وكأنّ هذا القالب لا أبَ له ولا أمّ.

وسأكمِل بعيداً عن السياسة لأنّ قياس العدالة في السياسة غير واضح، لماذا توقّفَت كل مشاريع إنتاج الكهرباء والسدود الجديدة، لماذا تعطّلت كلّ المشاريع التي طرحَتها وزارة السياحة في حينِها، ابتداءً من تنظيم تاكسي المطار، عِلماً أنّ هذه النقطة ليست من صلاحيات وزارة السياحة، إلّا أنّنا حاوَلنا التعاون مع الوزارات المعنية، والنتيجة كانت إبعاد وزارة السياحة عن المطار وتاكسي المطار وكلّ ما له علاقة بخدمة المسافرين وتعطيل أيّ إصلاح قامت به وزارة السياحة في هذا الإطار. وهذا ينطبق ليس فقط على المطار، حتى قانون منعِ التدخين في الأماكن العامة أصبَح حِبراً على ورق، ممّا يذكّرني بمثَلٍ آخَر «نكاية بالطهارة».

وهل مِن العدالة معاقبة وزير عبرَ تعطيل بندٍ لوزارته كان مطروحاً على مجلس الوزراء لأنّه تجَرَّأ على السؤال عن وضعِ «سوكلين» وكان الجواب التاريخي «خلّي الزبالة تطمّكُن». وهنا لا بدّ أيضاً من التذكير بهذه الجمهورية العاصية عن كلّ محاولات خفضِ أسعار جمعِ ومعالجة النفايات.

ومَن عطّلَ في الأمس هو نفسُه من يُعطّل اليوم أيَّ إمكانية لفرضِ العدالة في هذا المجتمع. فكفانا محاولات للتكلّم عن عدالة غير موجودة إلّا في الشعارات، ونحن في بلد تتنازع فيه الوحوش الكاسرة لتنتشَ أكبرَ قطعةٍ مِن هذا الجسد الممزّق.

وأسأل أيضاً عن أكبر عملية إجرام بحقّ العدالة، أي اتّفاقية الطائف، فمعادلة الـ 50 في المئة للمسيحيين تعني اليوم وضعَ اليدِ على أكثر من نصف النواب والوزراء المسيحيين، كما أنّ تطبيقَ اللامركزية الإدارية واضحٌ وضوحَ الشمس في الأمثلة التي أشرنا إليها، وسرقة أموال البلديات وحتى الوصول إلى اتّهام مَن يطالب بغرفةِ تجارة وزراعة وصناعة لجبل لبنان بالتقسيمي والانعزالي.

كلّ هذه الممارسات تجعَل من الطبيعي للشريك الآخر أن يطالب بالعدالة، وإذا رفض تحقيقها يكون هذا الشريك هو الساعي إلى فرطِ الشراكة، على طريقة «ضرَبني وبكى وسَبقنى واشتكى».

وأسأل هنا بقيّة الأحزاب المسيحية، وعلى رأسِها الدكتور سمير جعجع والرئيس الشاب المنتخَب حديثاً سامي الجميّل: هل تعتقدون أنّ هناك عدالة في التعامل الاقتصادي مع المسيحيين؟ وبالتالي هل العدالة مؤمَّنة بالنسبة إلى قانون الانتخاب والتعيينات وحقوق المسيحيين السياسية؟

أسأل جعجع وسامي الجميّل هل هناك عدالة في التعامل الاقتصادي مع المسيحيين؟