IMLebanon

لإنتفاضة الإنسان في لبنان

الكلّ متفق أنّ المدخل لقيام الدولة وترسيخ الاستقرار وعودة الحياة إلى طبيعتها يكمن في الوصول إلى تسوية سياسية تنهي الصراع السياسي وتعيد انتظام دورة المؤسسات الدستورية على قاعدة حصرية السلاح والقرار بالدولة، ولكن بانتظار ذلك لا بد من سياسة صمود تبقي اللبنانيين في أرضهم عند حصول التسوية المُرتجاة.

على رغم كل الملاحظات على حركة الشارع لجهة فوضويتها ورعونتها، إلّا أنها فتحت الأعين على جانب أساسي وهو انّ الناس مَلّت السياسة وأصبحت أولويتها تأمين مستلزماتها الحياتية قبل أي شيء آخر، خصوصاً أنها لم تتخاذل يوماً في تحمّل مسؤولياتها الوطنية دفاعاً عن السيادة والاستقلال والدولة، وبالتالي لا يجب تحميلها فوق قدرتها على الاحتمال، بل يفترض ترييحها لتمكينها من مواصلة نضالها في الشأن العام.

وبما انّ الرأي العام يشكل ركيزة أي مواجهة وطنية ومن دونه لا تستقيم المواجهة، يجب عدم الاستخفاف بأولوياته الحياتية، لأنّ الاستهتار بوجَعه يجعله ينأى بنفسه عن الصراع السياسي بغية إعطاء الأولوية للمستلزمات المعيشية التي تحفظ كرامته وعيشه الكريم.

وبمعزل عن الأسباب التي أفضَت إلى هذا الإهمال أكانت من طبيعة موضوعية أم ذاتية، إلّا انه لم يعد مسموحاً تبرير العجز عن مقاربة الملفات المطلبية، لأنّ البلد ليس في حالة حرب عسكرية، وإذا كان هناك ما يبرّر سابقاً هذا العجز بفِعل الانقسام السياسي العمودي حول السلاح ورفض المساكنة معه، فهذا العامل أيضاً لم يعد موجوداً، وبالتالي حان الوقت للتركيز على القضايا التي تشكّل معاناة يومية للناس.

فلا أحد يناقش بالتبريد السياسي وضروراته والأسباب الموجبة لهذا التبريد أو عدمه، بل النقاش هو في عدم المبادرة إلى فتح ورشة إصلاحية تضع حداً لكلّ المافيات التي استغلّت غياب الدولة من أجل ان تسرق حق الناس في حياة آمنة وكريمة.

وأمّا القول إنّ السلاح يحول دون ذلك والدليل عجز الدولة عن وضع حدّ لعصابات السرقة والخطف التي تجول من دون حسيب أو رقيب، لا يبرر إطلاقاً عدم الإقدام، لأنّ هذه العصابات التي تحظى، ربما، بغطاء «حزب الله» الضمني، إلّا انّ الحزب يصرّح علناً بأنه يرفع الغطاء عن كل مُخلّ بالأمن، وبالتالي هناك تقصير تتحمّله الدولة التي عليها ان تتكئ على الموقف المعلن للحزب من أجل الذهاب الى النهاية في هذه المعركة.

ومن ثم من قال انّ المعركة الإصلاحية تتم على البارد، لأنّ المافيات التي تسرق حقوق الناس لن تستسلم لإرادة الدولة والقانون والقضاء، بل ستواجه من أجل إبقاء التسيّب قائماً، ما يعني انّ حماوة هذه المعركة ستكون أشد من حماوة المواجهات مع السلاح، ويجب إشراك الجميع فيها.

وإذا كانت «فلسفة» التبريد تقوم على مبدأ عدم إنهاك الشعب اللبناني بصراعات لا طائل منها طالما انّ مصير السلاح يحسم إقليمياً، في الوقت الذي يحافظ فيه كل فريق على شعاراته وأهدافه وعناوينه، فإنّ الاكتفاء بالمقابل في الجلوس على مقاعد الانتظار لمعرفة ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية يعبّر عن استسلام وفشل ما بعده فشل.

ولا يجوز ان يكون شعار حركة سياسية «العبور إلى الدولة» وتتخلّى عن مسؤوليتها في مواجهة اتّساع رقعة الدويلة على حساب الدولة، لأنّ العبور لا يكون فقط باستعادة القرار للدولة، بل بالذهنية والممارسة في كل شاردة وواردة وعلى كل صعيد ومستوى، ومواجهة السلاح تبدأ بالعمل المؤسساتي والانتظام العام وتطبيق القانون. وكلّ من يدّعي انّ هذا السلاح يشكل مصدر حماية ونفوذ، سيتخلّى عنه عندما يلمس لمس اليد انّ الحماية الوحيدة له هي الدستور والقوانين.

فلقد حان الوقت فعلاً لانتفاضة جديدة تعيد توحيد اللبنانيين حول أهداف مشتركة تجسّد تطلعاتهم في دولة تحفظ حقوقهم وكرامتهم، لأنّ المستفيد الأكبر من الفَرطعة الحالية هو منطق الدويلة. فبقدر ما يشعر المواطن بوجود دولة تهتم لمصالحه وشؤونه، بقدر ما يَتَسخّف عامل السلاح الذي فقد أساساً كلّ مقومات استمراره بعدما ظهر على حقيقته انه في خدمة أي قضية إلّا القضية اللبنانية.

ومكافأة الناس التي حاربت وناضلت وواجهت في أصعب الظروف لا يكون بتركها لمصيرها أمام سلاح غير شرعي ومافيات لا دين لها ولا مذهب ولا طائفة ولا لون، وتشكل تحالفاً عابراً للمناطق والطوائف حفاظاً على مصالحها التي تقضّ وجود من تبقّى من اللبنانيين عبر تيئيسهم من بلدهم

والاستمرار فيه.

فبعد أكثر من أربعة عقود على الصراع المتواصل تحت عناوين مختلفة حان الوقت لسياسة صمود فعلية تبقي اللبنانيين بأرضهم قبل ان يتحوّل لبنان الى ارض لغير اللبنانيين، وهذه السياسة يجب ان تُعنى بكل ما يتصِل بدورة الحياة من زحمة السير والطرقات الى الكهرباء والماء والاستشفاء والمعاملات…

وإذا كان التخلي عن السيادة جريمة، فإنّ التخلي عن كرامة الناس هو جريمة أكبر، وليس صحيحاً انّ المواجهة لا تتم بالتوازي والتكامل، بل تتم على قاعدة «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، الأمر الذي يفترض إعلان انتفاضة من أجل الإنسان في لبنان اليوم قبل الغد.