IMLebanon

أوهام التحالف مع أميركا

 

 

 

في تبدّل دراماتيكي مفاجىء للسياسة الأميركية في سوريا أعلن البيت الأبيض يوم الأحد الفائت بأن الرئيس دونالد ترامب قد أعطى الضوء الأخضر لانطلاق عملية عسكرية تركية ضد المقاتلين الأكراد، المتحالفين مع الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم «داعش» منذ إعلان الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من الأراضي السورية والعراقية عام 2014. شكل المقاتلون الأكراد في شمال شرق سوريا الجزء الأكبر من قوات سوريا الديمقراطية، في الحرب ضد الدولة الاسلامية، وقد برهنوا عن قدرات قتالية مميزة في عملية دحر «داعش» وتفكيك الدولة الإسلامية.

 

تعتبر تركيا بأن القوات الكردية تشكل كياناً إرهابياً يهدّد أمنها القومي، وتشكل إمتداداً لحزب العمال الكردستاني، الذي خاض حرباً إرهابية ضدها، أمتدت على ما يزيد على ثلاثين سنة. جاء الإعلان الأميركي بالانسحاب من مناطق محاذية للحدود التركية شرقي الفرات بعد محادثة هاتفية جرت ما بين الرئيسين ترامب وأردوغان، والذي يسعى لإقامة منطقة آمنة ، تسمح بعودة مليوني لاجىء سوري موجودين داخل تركيا.

 

في الوقت الذي تحدثت فيه المعلومات عن انسحاب جزئي للقوات الأميركية من تل أبيض وعين عرب، وعن قرب إنطلاق العملية التركية فإن أياً من الفريقين الأميركي والتركي لم يفصح عن عمق المنطقة الآمنة بعد أن شكل هذا الأمر نقطة خلاف جوهرية في المفاوضات التي جرت ما بين الأميركيين والأتراك في الأِشهر الماضية، حيث طالبت تركيا بالسيطرة على شريط بعمق ثلاثين كيلومتراً، في الوقت الذي تمسكت فيه الولايات المتحدة بعمق لا يزيد عن عشرة كيلومترات، ينسحب المقاتلون الأكراد من جزء منه وتسحب الأسلحة الثقيلة فقط من جزء آخر.

 

كان قد سبق للرئيس ترامب أن أعلن في كانون أول الماضي عن قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا، لكنه عاد وتراجع عن قراره تحت تأثير المعارضة التي عبرت عنها وزارة الدفاع الأميركية، والتي ترافقت مع استقالة وزير الدفاع جيم ماتيس، بالإضافة إلى الأصوات المعارضة داخل دوائر المخابرات والخارجية وداخل الكونغرس.

 

سارع العديد من الخبراء الأميركيين فور إعلان قرار الإنسحاب إلى إنتقاد هذا التبدل المفاجىء في السياسة الأميركية في سوريا، محذرين من نتائج تخلي الولايات المتحدة عن دعم المقاتلين الأكراد، والذي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التعقيدات السياسية والعسكرية للأزمة السورية المستمرة منذ ثماني سنوات، خصوصاً إذا لجأ الأكراد إلى التحالف مع نظام بشار الأسد في مواجهتهم للهجوم التركي المتفوق بقدارته النارية والتكنولوجية. ولا يمكن إستبعاد أن تتحول العملية إلى مواجهة عسكرية واسعة بين النظام السوري وحلفائه وبين تركيا، مع كل ما يمكن أن يتركه ذلك من تساقطات وإرهاصات على الاستقرار الإقليمي.

 

إعتبر الأكراد بأن قرار ترامب بالإنسحاب، وإعادة الجنود الأميركيين من «حرب لا نهاية لها» طعنة في ظهرهم، وبأن العملية التركية ستفجر حرباً واسعة، وبأنهم قد فقدوا الثقة بالأميركيين، وهم بصدد البحث عن حلفاء جدد، من أجل الدفاع عن أنفسهم واستقلالهم.

 

تأتي هذه التطورات بمثابة إعلان نهائي بفشل المفاوضات الأميركية – التركية الجارية منذ أوائل آب الماضي من أجل إيجاد مخارج للمطالب التركية الملحة لإنشاء المنطقة الآمنة ، حيث لم تقتنع تركيا بالإكتفاء بتنفيذ دوريات وعمليات استطلاع جوي مشتركة مع الولايات المتحدة في الشمال السوري، وعلى جبهة تمتد على سبعين ميلاً. وهكذا رضخ ترامب في نهاية الامر للمطالب التركية وذلك حرصا منه على الحفاظ على تركيا كحليف استراتيجي أساسي منذ 65 سنة، خصوصاً وأن الانسحاب وإعادة الجنود الأميركيين سيخدم معركة ترامب الانتخابية، حيث سينظر إليه من قبل قاعدته الشعبية كوفاء بالوعود التي قطعها في معركة الرئاسة عام 2016. لكن يؤكد القرار المقاربة العشوائية وغير العقلانية التي يعتمدها في صنع القرارات ، وفق تقلبات مزاجه الشخصي .وكانت المصادر الأميركية قد أكدت أثناء إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن هناك توافقاً أميركياً عاماً للحفاظ على سلامة القوات الكردية واستمرار العمل لمنع أي هجوم تركي على مناطقهم.

 

السؤال المطروح الآن: كيف يمكن لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وخصوصاً في العراق ودول مجلس التعاون الخليجي أن يثقوا بالإلتزامات الأميركية بالدفاع عنهم وعن مصالحهم في مواجهة إيران وحلفائها؟

 

ليست المرة الأولى التي تتخلى فيها الإدارة الأميركية، وخصوصاً أثناء رئاسة ترامب عن موجبات الوفاء بإلتزاماتها، حيث شهدنا مجموعة من القرارات الأميركية التي تسببت بنتائج خطيرة على استقرار وأمن المنطقة العربية، بدءاً من الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2011، والتخلي عن الخطوط الحمر التي رسمها أوباما للنظام السوري في حال استعماله للسلاح الكيماوي، ومروراً بقرارات ترامب للاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وبضم مرتفعات الجولان لاسرائيل، ووصولاً إلى تراجعه عن وعوده بمواجهة العمليات الإيرانية ضد حرية الملاحة في مضيق «هرمز» وضرب المنشآت النفطية السعودية.

 

يبدو بوضوح بأن القرار الذي اتخذه ترامب يوم الأحد الماضي، خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي بأنه مستمر كعادته في اتخاذ قرارات خطيرة بصورة منفردة، ودون العودة إلى الدوائر المتخصصة في البيت الأبيض أو في الخارجية أو الدفاع أو وكالات الأمن والمخابرات ومتجاهلاً كل الوقائع على الأرض .

 

في الاستنتاج العام يؤكد هذا القرار مرة جديدة عدم مصداقية الوعود والالتزامات الأميركية للحلفاء، وهو الأمر الذي سبق لي شخصياً أن حذرت منه المعارضة العراقية قبل شهر من غزو العراق عام 2003 في مؤتمر رعته الإدارة الأميركية في أثينا، حيث قلت لأقطاب المعارضة العراقية «لا تثقوا بالأميركيين».

 

هكذا ينسحب الأميركيون من شمالي سوريا تاركين الأكراد لمصيرهم، يواجهون «عدوين» من جهة تركيا، ومن جهة أخرى «داعش» ، التي بدأت تعيد تنظيم صفوفها ومعاودة نشاطاتها وعملياتها الإرهابية.

 

في النهاية ما نشهده الأن يمثل هزيمة جديدة تضاف إلى الهزائم العديدة التي مني بها الأكراد في إيران وتركيا والعراق وسوريا منذ عام 1924،و لن يكون الشمال السوري بعدها كما كان قبلها، في ظل عدم وضوح الأهداف النهائية للخطط والمطامع التركية في اقتطاع المزيد من الأراضي السورية.