IMLebanon

منعاً لجَلد الذات

ردّ الفعل العفوي للرأي العام على الجريمة التي استهدفت المواطن جورج الريف ذهب في اتجاه تحميل المارّة في شارع الجمّيزة مسؤولية عدم التدخّل لإنقاذ حياته، وقد يكون ردّ الفعل هذا مفهوماً في سياق البحث عن كلّ ما من شأنه تجنيب الريف الموت.

إتّجاهان غلبا على ردّ فعل الرأي العام: الاتجاه الأوّل تحدّث عن التبدّل في طبيعة البعد المجتمعي اللبناني الذي انتقل من الشجاعة والجرأة والإقدام والتعاضد والألفة وحبّ المساعدة والمَيل للوقوف إلى جانب المعتدَى عليه والنخوة في الدفاع عن المظلوم والمبادرة للتدخّل، إلى اللامبالاة والخوف والجبن والتردّد وعدم الاكتراث، والاكتفاء بالمراقبة عن بُعد، وأن يحسب الشخص الذي صودفَ وجوده في المكان ألف حساب قبل أن يتدخّل…

والاتّجاه الثاني قارَب الجريمة من زاويةٍ مسيحية، إذ إنّ المسيحيين فَقدوا عنفوانهم وهيبتهم وقوّتَهم، ولم يعُد هناك مَن يحسب لهم أيّ حساب، وتُستباح مناطقهم وشوارعهم من دون أن يَرفّ للمعتدين جَفن، وإنّ ما ينطبق على مناطقهم لا ينسحب على مناطق غيرهم من الطوائف، حيث يتجمّع الناس لنصرة بعضهم، وإنّ هذه الجريمة، وما سبقَها، تُثبت بالملموس أنّ المجتمع المسيحي أصبح مفكّكاً وأنانياً وفاقداً للشجاعة وروح المبادرة، والأهمّ الروح النضالية والتضحية والفعالية، وأنّ «قبضايات» الأحياء زالوا إلى غير رجعة، وبات كلّ شخص يُفكّر في مصلحته، لا بيئته، ويخشى على نفسه، ويَعتبر أنّ تدخّله لنصرةِ هذا أو ذاك قد يجرّ عليه الويلات في ظلّ غياب من يؤمّن حمايته ويدافع عنه ويَعتني بعائلته في حال تمَّ توقيفه، وأنّ المناضلين الحزبيّين أصبحوا يتفادون «المشكل» وهمُّهم تبَوُّء المواقع والمناصب والابتعاد عن المشاكل…

وعلى أهمّية ما تقَدَّم، إلّا أنّه يَبقى في إطار ردّ الفعل العفوي المبرّر والمفهوم، ولكنّه لا يعكس حقيقة الواقع الذي يتناقض مع الاتّجاهين المذكورين للأسباب الآتية:

أوّلاً، تعاطف الرأي العام الذي ظهَر على مواقع التواصل الاجتماعي يؤشّر إلى غير ما ذهبَ إليه البعض في استنتاجه، حيث أظهرَت التعليقات أنّ التضامن والنخوة والرغبة في المساعدة والمبادرة وغيرها من العناصر ما زالت موجودة وبقوّة في المجتمع اللبناني.

ثانياً، التدخّل لفَضّ اشتباك لا علاقة له بالنخوة، إنّما بالقدرة، والقدرة تعني وجود شخص لديه المقوّمات الجسَدية التي تؤهّله التدخّل، أو يملك سلاحاً يستطيع من خلاله ترهيبَ المعتدي لمنعِه ممّا ينوي القيام به.

ثالثاً، الشخص العابر لا يعرف حقيقة الإشكال وخلفيّته والأسبابَ التي دفعَت المعتدي إلى هذا العمل الوحشي، وبالتالي مهمّته رَدع هذا المعتدي تلافياََ لوقوع الجريمة، وليس ارتكاب جريمة من خلال استهداف هذا الشخص، ولكن للردع، كما أسلفنا، متطلبات غير متوافرة لدى كلّ الناس.

رابعاً، الإنسان في لحظات من هذا النوع، وهي لا تتجاوز الدقيقة، يفقد حسَّ المبادرة أو التفكير بما يفترض أن يقوم به، فضلاً عن أنّه يَخشى من أن يدفع الثمن حياتَه في حال لا يملك ما يمكن أن يرَهِّب به الشخصَ المعتدي للَجمِه.

خامساً، عقيلة الريف أكّدَت أنّ حارساً أو ناطوراً في المبنى المجاور حاولَ التدخّل، وأنّه نال نصيبَه مِن التهديد والوعيد والضرب.

سادساً، الجريمة وقعَت في شارع أو حيّ غير شعبي وطابعُه مؤسساتي، وبالتالي تصوير ما حصَل بأنّه انتهاك للمناطق المسيحية، وأنّ المسيحيين فَقدوا عنصرَ الشجاعة غيرُ صحيح إطلاقاً، لأنّ طابع الإشكال فردي، ولا يرتدي طابعاً سياسياً، ولا يرتقي إلى مرتبة انتهاك منطقة وما شابَه.

سابعاً، لو صَدف أن وقعَ الإشكال في أحد أحياء الأشرفية المكتظّة سكّانياً، لَما كان طارق يتيم قد نجَح بالتمادي في جريمته، لأنّ مجموعةً من الشبّان كانت «طبّت» على المكان، ووجود مجموعة يختلف عن شخص واحد، حيث إنّ المعتدي كان سيرتدِع تلقائياً.

ثامناً، هل وقعُ الجريمةِ على المستوى المدني والمسيحي، وتحديداً المسيحي، كان أخَفَّ وطأةً لو كانت طائفة المعتدي من طائفة المعتدى عليه نفسها؟ الأمر الذي يبدو كذلك، وهذا كلام خطير لأنّه يستبطن التبريرَ والتخفيف من وقعِ الجريمة في حال كان المعتدي مسيحياً.

تاسعاً، وقعَت في السنتين المنصرمتين جرائم عدّة في الوسط المسيحي «أبطالها» مسيحيّون ويستخدمون السلاح أمام الجميع، وقد تمّ تصوير الاعتداءات على غرار ما حصَل مع الريف، ولم نسمع الشكوى نفسَها من غياب المروءة والإقدام.

عاشراً، إعتبَر البعض أنّ الحلّ لمواجهة هذا النوع من الحوادث بالعودة إلى صيغة أبطال الأحياء إبّان الحرب، هذه الصيغة وإنْ تصَدَّت لحوادث هنا تسبّبت في العشرات غيرها هناك، حيث إنّ الحلَّ هو مِن خلال الدولة والقضاء فقط لا غير.

حادي عشر، تحميلُ الأحزاب المسيحية بشكل مباشر أو غير مباشر المسؤولية من زاوية أنّ وجودها لم يعُد يشَكّل حمايةً معنوية تردع المجرمين هو تحاملٌ في غير محَلّه، فضلاً عن أنّه لَأمرٌ محيّر فعلاً، لأنّه في زمن الميليشيات كانت الشكوى لدى البعض من غياب الدولة، ومع عودة الدولة والعمل الحزبي السياسي عادت المطالبة من هذه الفئة نفسِها بالميليشيات، وبالتالي الأحزاب ليست ميليشيات من مسؤوليتها الأمن والحراسة، ومن ثمّ الحضور الحزبي هو في الأحياء ذات الطابع الشعبي لا المؤسساتي.

ثاني عشر، مِن سوء طالع الريف أنّ الإشكالَ وقعَ في الشارع الخطأ واللحظة الخطأ التي لم يصادف فيها مرور الشخص أو المجموعة التي بإمكانها التدخّل.

ثالث عشر، إنّ أولوية أيّ إنسان عدمُ تعريض نفسِه للأذى، وهذا أمرٌ بديهيّ وطبيعي، الأمر الذي يَجعله يتجنّب التهوّرَ ويَعدّ حتى المليون قبل الإقدام ودفع الثمن إذا لم يكن متأكّداً مِن النتيجة.

رابع عشر، على كلّ شخص أن يُسقِط المسألة على نفسِه ويتصوّر ردّ فعلِه لو كان في تلك اللحظة في موقع الجريمة، لأنّ هناك نوعاً من توَجّه أو تفكير شائع لدى فئة معيّنة من الناس، وكان فاقعاً في زمن الحرب، لجهة التشجيع والحضّ على القتال، وعن قناعة، ولكن شرط الابتعاد عنه وعن عائلته.

ويَبقى أنّ المجتمع اللبناني بألف خير، فالحِسّ الإنساني التضامني ما زال على ما هو عليه، ويُخطئ مَن يَعتقد خلافَ ذلك… والمجتمع المسيحي بألف خير، وكلّ من يُصوّر عكسَ ذلك لا يعرف حقيقة هذه البيئة التي ما زالت على أتمّ الاستعداد لتقديم الشهداء في سبيل لبنان إذا استدعاها الواجب لذلك. وإذا كان من كلمةٍ أخيرة فلا يجوز تحويل إشكال فرديّ إلى مناسبة لنَعيِ المجتمعَين اللبناني والمسيحي، وعن غير وجهِ حقّ…