IMLebanon

على خطى سنغافورة

رحل رجل من أكثر الرجالات تأثيراً في العالم، والذي أعتبره شخصياً حكاية ملهمة يجب ان تشكّل دروساً لكافة القيادات في عالمنا العربي، وفي لبنان تحديداً.

لي كوان يو، هو مؤسس سنغافورة الحديثة حوّلها من مجرد مرفأ تابع لماليزيا الى أكثر الاقتصادات الحديثة تأثيراً، حيث قفز الناتج المحلي من 2 مليار دولار عام 1960 إلى 87 مليار دولار عام 2002 والى 297 مليار دولار في العام 2013.

وارتفع معدل دخل الفرد السنغافوري من 435 دولاراً سنوياً عام 1960 إلى 64 ألف دولار سنوياً حالياً، وهو من أعلى المعدلات في العالم. وتشكّل بورصة سنغافورة حالياً ثاني أكبر مركز للتداولات المالية في آسيا بعد اليابان.

قصة سنغافورة غريبة من نوعها وتستحق التأمّل؛ لأنّها مجرد جزيرة صغيرة تقطعها من أقصاها بالمترو في حدود 45 دقيقة، وهي تقريباً خالية من كل الموارد الطبيعية، وكانت تعتبر دولة متخلفة قبل عقود قليلة جداً من الزمن، ولم تبدأ مسيرتها التنموية بشكل جاد إلّا في بداية السبعينات الميلادية.

أكتب عن هذه الدولة التي يسكنها حوالى اربعة ملايين نسمة في مساحة تقدّر بـ 1700 كلم2، أي حوالى 17% من مساحة لبنان، لأنني ارى انّ السير على خطى هذه الدولة العظيمة في إنجازاتها يجب ان يتعلّم منه شعب لبنان العظيم، وكنتُ بتاريخ 18 كانون الثاني 2012 قد ألقيتُ محاضرة في جامعة الحكمة وعرضتُ لنموذج سنغافورة داعياً الطلاب الى التأمّل جدياً بطرق السير «على خطى سنغافورة»، حيث رأينا انّ سكان هذا البلد الصغير ليسوا فقط من أديان مختلفة بل من إتنيات مختلفة، ولكن لم يدخلوا في الصراع واجتمعوا على هدف واحد، هو النجاح والتميّز.

إستطاع لي كوان يو أن ينقل هذا البلد من دولة متخلفة استعمرتها بريطانيا، واحتلتها اليابان. امّا اليوم فأصبحت من أقوى الاقتصادات العالمية، واستطاعت ان تستقطب الكثير من المبدعين والناجحين، وبعضهم حمل جنسيتها، كما فعل مؤخراً أحد مؤسسي موقع الفيسبوك الذي طلب التخلي عن الجنسية الأميركية بسبب الضرائب المرتفعة، فاستقطبَ العقول الماهرة من أهم السياسات التي تنتهجها سنغافورة.

وبالفعل أصبحت هذه المدينة «الدولة» واحدة من أقوى دول العالم اقتصادياً، ورابع أكبر مركز مالي في العالم، وصاحبة خامس أكبر ميناء على وجه الأرض، وصاحبة قانون الضرب بالعصا لمَن يلقي مهملات على الأرض، المدينة النظيفة والخضراء.

فور خروجها من الاتحاد الماليزي، توقعوا لها الفشل، بل كانت ماليزيا تنتظر هذا الفشل لتعيدها مرة أخرى إلى سيادتها، ولكن جاء لي كوان يو – خرّيج كامبريدج – أوّل رئيس لوزراء سنغافورة بعد الاستقلال، ليضع خطة النجاح التى تقوم على أساس: 1 + 1 = 2.

فبعد أن اعتمد لسنوات على السياحة لإنعاش الاقتصاد وتشغيل الشباب، اتجه سريعاً إلى التعليم وتحديد النسل وبناء المصانع التى تعمل في كافة المجالات، واعتمد في خططه الاقتصادية على النخب العلمية، واتّبع قاعدة «البقاء للأكفأ» أو «الحكم للأكفأ» بموجب الشهادات العلمية والقدرة على ترجمة هذه الشهادات إلى إنجازات واقعية في شتى المجالات، وألغى تماماً كل أنواع التمييز بين المواطنين على أساس اللغة أو الدين أو الطائفة، وطلب من النخب العلمية التي استعان بها في كل مجال نقل كل سياسات الحداثة التي تعلّموها في الجامعات المختلفة،

وخصوصاً الأوروبية والأميركية، إلى سنغافورة، كما اختفت كل النصوص التمييزية من الدستور والقوانين، وبُنيت البلاد على أساس التعددية العرقية، بل أكثر من ذلك، بنيت على مَحو فكرة التعددية تماماً وتناسيها من الأساس، باتجاه مجتمع سنغافوري موحّد لا فرق أبداً فيه بين الماليزي والصيني والهندي.

واعتمدَ لي كوان يو على الابداع في كل المجالات، في الصناعة والتعليم والتجارة. ومن الأمثلة على حرصه على تعميم الابداع: قبل أربع سنوات استعانت سنغافورة بالدكتور آرثر فان جاندي Arthur Van Gundy والذي يلقّب بـ»الأب الروحي للإبداع».

وقامت الحكومة السنغافورية بتوقيع عقد معه مدته عشر سنوات، يذهب بمقتضاه فترة محددة كل عام إلى سنغافورة لتدريب الموظفين في القطاعين العام والخاص على الأساليب الإبداعية لحلّ المشكلات، وهو بنهاية العقد يكون قد درّبَ كل شخص في سنغافورة على كيفية حَلّ مشكلات العمل بشكل إبداعي.

ولأنّ سنغافورة توصف بأنها «جنة الاستثمار» في العالم، فمن الطبيعى أن يكون السبب هو أنّ لي كوان يو أنشأ ما يسمى بهيئة التنمية الاقتصادية لتصبح الجهة الوحيدة للتعامل مع المستثمرين الأجانب، وذلك لتسهيل مهمة الجهات المستثمرة بدلاً من تعاملها مع عدد كبير من الجهات، وقدّم لهذه الهيئة وللمستثمرين غطاء قانونياً كافياً يتضمن امتيازات ضريبية للمستثمرين وضمانات قانونية بحماية أعمالهم وأنشطتها، تماماً مثلما تقول كتب الاقتصاد المتقدمة. وعملت هذه الهيئة على تسهيل كل الاجراءات لتسهيل كل المعاملات في الجزيرة واختصارها.

والأهمّ هو حرص لي كوان يو على خلق سنغافورة خالية من الفساد، فترك إرثاً في مكافحة الفساد حيث أصدر قانوناً بإنشاء ما يسمّى بمكتب استقصاء ممارسات الفساد Corrupt practices Investigation Bureau CPIB، واقترح بأن تكون معاشات الوزراء والموظفين الكبار في القطاع العام موازية للمناصب الكبرى في القطاع الخاص، وذلك لمنع الرشاوى والفساد. وبالنتيجة صنّفت مؤسسة الشفافية الدولية في العام 2011 سنغافورة البلد الأقل فساداً في العالم.

لقد كان قائداً يتمتع برؤية، فنجح في خلق مجتمع منصهر على رغم تعدد الإتنيات والجنسيات وكلها متساوية أمام القانون. فهو القائل: ما هي أولوياتنا ؟ أولاً تأتي المعيشة وخير الشعب، وبعدها تأتي الديموقراطية والامور الاخرى، وهذا ما جعل إنجازاته مستدامة إذ إنه خلق هماً مشتركاً لمواطنيه يتمثّل بالحق الاقتصادي.

هناك الكثير لنتعلّمه من هذا القائد التاريخي، جاء لي كوان يو الى بيروت في الستينات وأبدى إعجابه بها متمنياً ان تصبح سنغافورة مثل بيروت. بعد ما يقارب الخمسين عاماً حقق لي كوان يو حلمه وأكثر، أعطى لسنغافورة أجنحة لترتفع فيما نحن كبّلنا بيروت بأوزان ثقيلة تغرقها يوماً بعد يوم، أوزان تتمثّل بالبيروقراطية والفساد والمحاصصة والصراع الطائفي والمصلحة الفردية وغياب الرؤية الاقتصادية.

في ما يلي بعض ما نشرته رويترز من أقوال لي كوان يو، بعض الأقوال نقبلها وأخرى قد لا يقبلها البعض، ولكنها كلها جديرة بالتأمّل:

«You take a poll of any people. What is it they want? The right to write an editorial as you like? They want homes, medicine, jobs, schools.»

«We have to lock up people, without trial, whether they are communists, whether they are language chauvinists, whether they are religious extremists. If you don›t do that, the country would be in ruins.»