IMLebanon

لماذا التحقيق الدولي؟

 

في الثامن عشر من شباط الحالي، أصدرت جانب محكمة التمييز الجزائية – الغرفة السادسة – قرارها الذي حمل الرقم /5/ لعام /2021/ وقضى بقبول طلب نقل الدعوى من تحت يد المحقق العدلي القاضي فادي صوّان، ورفع يده عنها، على أن يتولّى النظر فيها مُحقق عدلي آخر، يُعيّن وفق أحكام الفقرة الأخيرة من نص المادة /360/ من قانون الأصول الجزائية.

 

وقع هذا القرار على ذوي الشُهداء والضحايا وقوع الصاعقة، خصوصاً أنّ ملف التحقيق قد قارب مُعطيات جديدة وحاسمة، وأدخل أسماء وشخصيّات لُبنانية وأجنبيّة فَلَك المُلاحقة والمُساءلة.

 

طَرَحَ هذا القرار كثيراً من علامات الاستفهام، أوّلاً بالنسبة إلى فقهاء القانون:

• كَيف لِمحكمة التمييز الجزائية أن تُنحّي المُحقق العدلي، المُعيّن بِقرار وزير العدل (المُستنِد إلى مرسوم إحالة الدعوى إلى المجلس العدلي)؟

• كيف يُصار إلى تنحية المُحقق العدلي، خلافاً لِقاعدة الموازاة في الصيغ والأشكال (Parallelisme des formes)؟ فَكَما يُعيّن يُعْزَل، وكما يُكلّف يُنحّى.

 

• وماذا إذا تقدّم أحدهم مُستَقبلاً بِطلب نقل الدعوى من تحت يد المجلس العدلي، ورفع يده عنها، على أن يتولّى مجلساً آخر مهمّة مُتابعة النظر بالدعوى؟.

 

علماً أنّ المجلس العدلي يُعيّن بِمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير العدل، وموافقة مجلس القضاء الأعلى، سنداً للمادة /357/ من قانون الأصول الجزائية.

 

أمّا القول، انه سبق وأن رُفِعت يد القاضي الياس عيد عن تحقيقات جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وإستُبدِل بالقاضي صقر صقر، كذلك في خصوص جريمة إخفاء المُغيّب الإمام موسى الصدر. لا يستقيم، كَوْن أي قرار مُخالف للقانون، لا يُبرّر قرارات شبيهة ومُتلاحقة ومُماثلة.

 

مع الإشارة أيضاً إلى أنّ القرار المذكور (الصادر عن جانب محكمة التمييز الجزائية) قد جاء مُخالفاً لِنصّ الفقرة «هـ» من مقدّمة الدستور، والتي تنصّ على أنّ النظام اللبناني قائم على مبدأ الفصل بين السُلطات.

 

وبالتالي، ما جرى أن السُلطة الإجرائية خضعت للسُلطة القضائية، بقبولها قرار نقل الدعوى ورفع يد القاضي فادي صوّان والذهاب نحو تكليف مُحقّق عدلي بديل.

 

علماً أن معالي وزيرة العدل كان في إمكانها رفض القرار القضائي الذي اعتدى على صلاحيّاتها، والإصرار على استمرار القاضي فادي صوّان في مهماته، كَون قرار تعيينه إستند إلى مرسوم الإحالة إلى المجلس العدلي، الذي هو عمل حكومي (acte de gouvernement) لا يُمكن الطعن به على الإطلاق.

 

أمّا بالنسبة إلى المُراقبين والعامة وذوي الشُهداء والضحايا، فالسؤال الأهمّ الذي طرحوه، ما خلفيّة صدور هذا القرار؟ هل لأن المُحقق العدلي تجاوز الخطوط الحُمر؟ هل لأن المُحقق العدلي فتح كوّة في جدار التحقيق، وبات على مَقرُبة من الفاعلين والمُرتكبين؟.

 

لا شكّ أن حضرة المُحقّق العدلي، أبلى بلاءً حسناً في مهماته (رغم بعض التحفُظات وزلّات القَدَمْ) لكن المؤكّد أنّه شكّل إزعاجاً إن لم نَقُلْ تهديداً مُباشراً لفريقٍ من المُجرمين والقَتَلة والمُرتكبين، وكان القرار بإبعاده.

 

تَكثُر التحليلات وتختلف القِراءات، لكن الثابت أنّ التحقيق المحلّي إصطدم بِمَعوقات وعوائق. فالعِلّة ليست ببعض الهفوات في الإجراءات، إنما بِعدم السّماح لهذا التحقيق أن يتوصّل إلى أيّ نتائج، أو أن يَصِلْ إلى أي خواتيم. فالقرار مُتّخذ أن تقتصر المُساءلة على بعض الأفراد والضُبّاط الصِّغار، وسَتُميّع التحقيقات، وستُزهق الحقوق من دون أدنى شك.

 

وتسألون لماذا المُطالبة بالتحقيق الدولي؟

لأنّ ما شهدناه طيلة نيّفٍ ونصف عام من الزمن، يؤكّد أنّ القضاء اللبناني، رغم ثقتنا الكبيرة به، غير قادر وعاجز عن مواكبة جريمة بهذا الحَجم والمقدار.

 

لأننا نُدرك أنّ المُحقق العدلي المُعيّن حديثاً القاضي طارق البيطار سيصل عاجلاً أم آجلاً إلى طريق مسدود في تحقيقاته، كَونه لن يُسمَح له بتجاوز المحظور.

 

فهل المُشكلة كانت مع القاضي فادي صوّان (المشهود له بعلمه وجرأته) أم المشكلة في عدم الإجازة له بالوصول إلى مقامات وشبكات ومنظومات؟

 

لِنتكلّم بِصراحة ومن دون قفّازات، هل أصحاب القرار على اقتناع أنّ في إمكان أي مُحقق عدلي يُعيّن تَسمية الأمور بأسمائها وكما هي؟

 

فَمَصيره عندها إمّا التنحية وإمّا…

 

صارحوا ذوي الشهداء والضحايا ولَوْ لِمرّة.

 

صارحوهم أنّنا لن نتمكّن مِن كَشف الحقيقة لأنّها صعبة.

 

صارحوهم أنّ دماء أبنائهم قد ذهبت هدراً.

 

صارحوهم أنّ جريمة المرفأ ستبقى جريمة من دون عقاب.

 

وإن أردتم الحقيقة، وإن سَعَيتُم إلى العدالة، ليس من سبيل إلّا اللجوء إلى لجنة تقصّي حقائق دولية، بمُبادرة من أركان الدولة، أو من دونهم. فالحقيقة يجب أن تظهر، والفاعل يجب أن يُكشَف، والمُجرِم يجب أن يُعاقب.

أمّا لماذا رفض اللجوء إلى لجنة تحقيق دولية؟ لأنّ هذه اللجنة ستقول الحقيقة. والفيلسوف أفلاطون يقول: «أكثر شخص مكروه عند الناس هو الذي يقول الحقيقة»، فَمَن ارتكب جريمته سيسعى جاهداً لإخفائها، ومَن شارك فيها سيسعى بدوره إلى ذلك.

 

لكن إعلموا أن لا حق يموت ووراءه مُطالب، والحقيقة ستظهر عاجلاً أم آجلاً.