IMLebanon

صندوق النقد لـ”التسلية” حتى يأتي الغاز!

 

 

على الأرجح، سيتعب وفد صندوق النقد الدولي كثيراً مع السلطات اللبنانية، ولكن من دون جدوى. وزيارته الأخيرة لبيروت حملت أعلى مستوى من انعدام الأمل بالإصلاح وولادة برنامج تمويل مع لبنان.

قصة الطاقم السياسي في لبنان مع صندوق النقد بدت متعثرة من اللحظة الأولى. فشرط المساعدات هو الإصلاح، وهذا الطاقم لم يرغب يوماً في إلزام نفسه ببرنامج إصلاحي أياً كان شكله، لأنّه سيكشف الخفايا عن المرحلة السابقة ويمنع تكرارها في المرحلة المقبلة، ما يعني عملياً فضح ممارسات هذا الطاقم بأذرعه السياسية والمالية، وإنهاء دوره.

 

بعد انفجار الأزمة، في خريف 2019، وعلى مدى أكثر من عام، تجاهل طاقم السلطة نهائياً وجود الصندوق، لئلا يَطلب منه التزام الإصلاحات السريعة الضرورية. ولكن، تحت ضغط المجتمع الدولي، ولاسيما الولايات المتحدة وفرنسا، وبعد التخلّف عن تسديد الديون الخارجية بسندات «اليوروبوند»، ومقدارها نحو 39 مليار دولار، في آذار 2020، أوحى لبنان بأنّه مستعد لمحاورة الصندوق والتوصل إلى اتفاق معه.

 

ولكن، آنذاك، أضاعت القوى السياسية اللبنانية شهوراً عدّة بالانقسامات في ما بينها حول خطة التعافي المالية والاقتصادية، وحول تحديد المسؤوليات في الداخل. وتحت هذا العنوان، مرّرت هذه القوى فترة طويلة من المناورات، سمحت بالإجهاز على غالبية الودائع وتهريب أرصدة ذوي الشأن في غفلة عن قانون «الكابيتال كونترول».

 

بعد ذلك، دخلت هذه القوى في مرحلة جديدة من عملية إضاعة الوقت. فتمّ الإيحاء بتوحيد الرؤية في ما بينها، وبدأت مفاوضة الصندوق على هذا الأساس. وبعد عناء، جرى في نيسان الفائت اتفاق معه على مستوى الموظفين، مع وعدٍ بتسريع الانتقال إلى اتفاق نهائي.

 

ومنذ ذلك الحين، لم يتخذ لبنان أي خطوة- ولو صغيرة- لتحقيق هذا الهدف. ولا يقدّم المسؤولون المعنيون أي تبرير لذلك. وفي زيارته الأخيرة، كشف وفد الصندوق مرّة أخرى مدى التلكؤ المتعمّد في إقرار الإصلاحات المطلوبة كلها، وأبدى استياء شديداً من ذلك، ولم يسمع أي تفسير لما يجري، من أي مسؤول.

 

وفي واقع الأمر، ينظر طاقم السلطة إلى أعضاء الفريق التقني وكأنّهم مادة إضاعة للوقت لا أكثر، انتظاراً لتطورات واستحقاقات يتوقعها هذا الطاقم وتتكفّل بحلّ الأزمة تلقائياً، ومن دون التنازل أبداً، ومن دون المغامرة بالرضوخ إلى أي إصلاح.

 

فهؤلاء التقنيون، في نظر القوى السياسية اللبنانية، يفهمون بالأرقام والبرامج النظرية لا أكثر، ويمكن إلهاؤهم بالمراوغة وكسب الوقت معهم ما دامت الحاجة تستدعي ذلك.

 

وفي الواقع، ما يريده أهل السلطة هو فقط الحصول على المال من الجهات الدولية لتمرير المرحلة. ولأنّ هذه الجهات تعتبر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مدخلاً إجبارياً للمساعدات، فقد أوحى هؤلاء بانخراطهم في مفاوضات جدّية مع الصندوق.

 

ولكن، لا إدارة الصندوق مستعدة لإبرام اتفاق نهائي مع لبنان قبل التزامه الشروط، ولا القوى الدولية مستعدة لفك الحظر عن المساعدات إلّا بعد الاتفاق مع الصندوق. ولذلك، بات الرهان الوحيد في لبنان حالياً هو استخراج الغاز.

 

تدرك قوى السلطة أنّ «المردود» المنتظر من صندوق النقد لا يتجاوز المليار ونصف المليار دولار سنوياً، لفترة 3 سنوات، أي أنّه يقارب الـ4.5 مليارات في أفضل الأحوال. فيما هذه السلطة نفسها، خلال فترة مفاوضتها للصندوق، أهدرت نحو 10 مليارات دولار من احتياطها.

 

وهذا الأمر يؤكّد أنّ السلطة لا تفاوض الصندوق من أجل بضعة مليارات لن تصل، بل لتحقيق هدفين:

1- إضفاء الشرعية على نفسها في نظر المجتمع الدولي الذي بقي يقاطعها… حتى أصابه اليأس من نتائج الانتخابات الأخيرة.

2- الإيحاء بالتفاوض لا أكثر، فيما الهدف الحقيقي هو الحصول على المال من مكان آخر.

 

اليوم، رهان أهل السلطة ينصبّ على استخراج الغاز في أسرع ما يمكن، أي قبل نهاية العام. وهذا يعني أنّ الجانب اللبناني مستعجل لتوقيع اتفاق الترسيم، لضرورات خاصة به. كما أنّ الإسرائيليين مستعجلون لاستغلال لحظة الحاجة الأوروبية الماسّة إلى الطاقة، بسبب حرب أوكرانيا والحصار الروسي.

 

يماطل أركان السلطة في الإصلاحات، حتى إنّهم يتجاهلون إقرار موازنة عامة، ويهدرون الوقت في مراوغة الصندوق، ولا يهمّهم أمر الاتفاق المشروط و»المتعب» معه. ويريدون فقط بدء استخراج الغاز بمليارات الدولارات «السهلة».

 

الحصول على المليارات من قعر البحر لا يكلّف الطاقم السياسي شيئاً من التنازلات أو الإصلاحات، ومردوده أكبر بكثير من مردود صندوق النقد الدولي. ولذلك، تتشوق القوى السياسية إيّاها للحظة تدفق المليارات من القعر، وقد باتت على قاب قوسين أو أدنى.

 

وهذا يعني أنّ «دولة ما بعد الغاز» ستكون بمواصفات الفساد إيّاها التي تميّزت بها «دولة ما قبل الغاز»، وأنّ الثروة الوطنية التي سيتمّ إخراجها من باطن الأرض وتسييلها ستكون في خطر حقيقي.

 

والسلطة التي أضاعت 100 مليار دولار من أموال الدولة وودائع الناس، بل أكثر بكثير على مدى عقود، هل تؤتمن على 100 مليار أخرى أو أكثر من مخزونات الدولة والمواطنين، التي بقيت تخبئ رأسها في قاع البحر، حتى اليوم، فسَلِمَتْ؟