IMLebanon

رسائل حربية لكن التسوية أقرب

 

هنالك من يعتقد انّ ملف الاتفاق النووي الايراني اصبح على مفترق طرق، وانّ الوقت قد استنفد نفسه، فالظروف باتت تحتّم اتخاذ القرار الحاسم وان الهامش المسموح به للمناورات قد ضاق كثيراً.

الخبير الاميركي في الشؤون الدولية الاكثر شهرة على الاطلاق هنري كيسنجر اعتبر ان العالم في وضع كلاسيكي يشبه مرحلة ما قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى، حيث لا يتمتع اي من الجانبين الاميركي والصيني بهامش كبير من المناورة السياسية، وحيث يمكن ان يؤدي اي اضطراب في التوازنات الدولية الى عواقب وخيمة. الثعلب الاميركي، والذي سيبلغ في 27 ايار المئة عام، نَصحَ الاميركيين والصينيين على حد سواء بوجوب ان يتعلما طريقة العيش معا، مشيرا الى أن لديهما أقل من عشر سنوات لإدراك هذه الحقيقة. كلام كيسنجر ليس مجرد رأي من خارج السياق، لا بل هو يعكس المناخ الجدي داخل اروقة القرار الاميركي حول طريقة التعاطي مع التحدي الصيني على الرقعة الدولية للعقود المقبلة. وهذا الواقع الحاصل يفترض بواشنطن العمل على اغلاق النوافذ المفتوحة في وجهها، او على الاقل الحد من خطورتها في اطار لعبة التنافس الدولي الجديدة. وحتى الآن شكلت الحرب المفتوحة في اوكرانيا فرصة ذهبية لاستنزاف التحدي الآتي من روسيا وهو ما يعني أن هذا الجحيم المفتوح في شرق القارة الاوروبية يجب ان يبقى كذلك، ولكن تحت سقف المعادلة التالية: لا انتصار اوكرانياً ولا هزيمة روسية، وبالتالي حرب طويلة.

 

اما في الشرق الاوسط فكان واضحاً ان النزاع الاميركي ـ الصيني ادى الى تعديل الاستراتيجية الاميركية تجاه هذه المنطقة. وبدل ادارة ظهر واشنطن لهذه المنطقة المشحونة بالنزاعات، استعاد الشرق الاوسط اهتمام واشنطن، خصوصا بعد نجاح الصين في التسلل الى المنطقة التي عرفت خلال العقود الماضية بأنها منطقة نفوذ صافية للاميركيين.

صحيح انّ احد الاسباب التي وقفت سابقاً وراء القرار الاميركي بإدارة الظهر للشرق الاوسط هو أن الوقت يلعب ضد مصلحة الاهمية الاستراتيجية للنفط، وان العام 2050 سيشكّل تجاوزاً لأهمية هذه السلعة التي اشعلت العالم، الا اننا ما نزال بعيدين اكثر من ربع قرن عن هذا الموعد، وفي الوقت نفسه فإن الخليج العربي يشكّل رأس جسر حيوي للصين في طريقها للسيطرة على خيرات افريقيا. ولذلك استعادت واشنطن زخمها في اتجاه دول الخليج وهي رفعت درجة تركيزها على ايران التي انخرطت في حرب اوكرانيا عبر مسيراتها الناجحة الى جانب روسيا، وأنجزت اتفاقات طابعها استراتيجي ولمدة 25 عاماً مع الصين، هذا عدا عن حساسية الملف الايراني على اسرائيل التي ترزح تحت ازمة داخلية حادة، وكذلك على السعودية على رغم من المصالحة التي حصلت. والمدخل الاساسي في هذا الاتجاه يبقى الملف النووي وضمناً النفوذ العسكري الايراني في المنطقة. ويقول اليوت ابرامز، احد صقور الادارة الاميركية ايام الرئيس السابق جورج دبليو بوش والمتخصّص بشؤون الشرق الاوسط والمعروف عنه تأييده لإسرائيل، ان ثمة خشية لدى العواصم العربية من ان يؤدي «تركيز واشنطن على الصين واوكرانيا الى خلق فراغات سياسية في الشرق الاوسط ستستفيد منها ايران» وهذا ما يؤرق اسرائيل.

وخلال المرحلة الماضية لمست اسرائيل تراجع حضورها في الشرق الاوسط، نتيجة التبدلات في التحالفات في المنطقة، فهي لم تعد في نظر دول المنطقة بوابة عبور إلزامية لها الى واشنطن، ووسيلة لتعزيز حضورها في البيت الابيض لأسباب عدة منها العلاقة الباردة بين الحكومة الاسرائيلية والبيت الابيض. صحيح انّ بنيامين نتنياهو حقق مكاسب سياسية وشعبية بعد معركة غزة الاخيرة، لكن لا يمكن القول ان ما حصل شكّل نقطة تحول لمصلحته. ولأنه يقف في مرحلة دقيقة، فهو يسعى للذهاب في اتجاه مغامرة عسكرية ضد ايران. وصحيح أن هذا التوجّه شكل هدفاً اسرائيلياً طوال السنوات الماضية، لكن الجديد ان الادارة الاميركية ولأجل كل ما سَبق باتت ترى ان الوقت قد حان لإقفال هذا الملف بالديبلوماسية او بالنار، وهي التي تستعد بدورها لانتخابات دقيقة وصعبة وسط تجاذبات داخلية كبيرة.

اليوت ابرامز يقول في هذا الاطار انه من الواضح أن ايران تقترب من التوصل لإنتاج سلاح نووي، مُبدياً اعتقاده بأن اسرائيل ستتصرف، ما يعني انهم سيهاجمون البرنامج النووي حتى لا يكتمل. وكلام ابرامز هنا ليس مجرد رأي، فهو المعروف عنه علاقته الوثيقة بالدوائر العسكرية والامنية الاسرائيلية.

وثمة اشارات اسرائيلية عدة في هذا المجال، فإسرائيل التي تدرك أنّ الرد العسكري الذي ستنفذه سيستتبعه حتماً فتح الجبهات المحيطة والتي وجّهت رسالتها الصاروخية المشتركة في وقت سابق، عمدت الى توجيه ضربة قاسية للتركيبة العسكرية الميدانية لحركة «الجهاد الاسلامي» الموالية كلياً لإيران، من دون اي مقدمات او وجود اسباب مباشرة. كذلك باشرت في إجراءات امنية دفاعية في المنطقة المحاذية للشريط الحدودي مع لبنان، وبتحصين المنازل القريبة. أضف الى ذلك اشارات اسرائيلية استخباراتية تم توجيهها لكي يرصدها «حزب الله» بأن اسرائيل على بَيّنة من ترتيبات ميدانية جديدة اتخذها.

ومنذ ايام كشف موقع «اكسيوس» الاخباري، نقلاً عن مسؤولين اميركيين واسرائيليين، أن ادارة بايدن اقترحت على اسرائيل الانخراط في تخطيط عسكري مشترك في شأن ايران. وقد تكون هذه الاشارة تحمل معنى مزدوجاً، فإمّا ان المقصود هنا اكتشاف الاسرار العسكرية الاسرائيلية في تخطيطها لاستهداف المنشآت الايرانية، او الانخراط فعلاً في التحضير لعمل عسكري مشترك خصوصا في ظل ما حُكي عن نقل قنابل خارقة للتحصينات الى مخازن الجيش الاميركي في الشرق الاوسط. أضِف الى ذلك التعزيزات العسكرية الاميركية في الخليج، واعلان الاسطول الخامس زيادة دورياته البحرية والجوية في مضيق هرمز.

وبذلك تكون العقبتان اللتان تعترضان اسرائيل للقيام بضربتها، على مشرحة الحل، وهما: طريقة التعامل مع «وحدة الجبهات»، والمساعدة الاميركية لإسرائيل لجهة تزويد الطائرات بالوقود في الجو والقنابل الخارقة للجبال.

في المقابل ثمة رسائل ملتبسة، فمِن جنوب لبنان جاءت رسالة «حزب الله» الأوضح عسكرياً عبر ابراز مخالبه وتطور قدراته تحت عنوان العبور، لكن لا بد من الاقرار بأنّ ثمة تبدلات لبنانية داخلية حصلت خلال السنوات الماضية وجاءت نتيجة الازمة الاقتصادية والمعيشية الحادة، خصوصاً ان اي انزلاق في اتجاه المواجهة سيكون لسبب ايراني لا لبناني.

كذلك فإنّ التطورات على مستوى الساحة السورية جعلت المنطقة الجنوبية اقل حرية حركة منه في السنوات الماضية. وسياسة النأي بالنفس التي اتّبعتها حركة «حماس» مع الاعتداء الاسرائيلي على كوادر «الجهاد الاسلامي» تطرح علامات استفهام عدة.

وفي ايران ظهرت اشارات متناقضة، ففي حين دعا مرشد الثورة علي خامنئي الى وجوب اعتماد المرونة بعض الاحيان، مُذكّراً «بالمرونة البطلة» قبل سنوات عدة والتي فُهمت بشكل خاطئ في الداخل والخارج، والمقصود هنا يوم توقيع الاتفاق النووي عام 2015، ومن ثم انسحاب ترامب منه عام 2018، جاءت إقالة علي شمخاني من خارج السياق الطبيعي خصوصا بعد الاتفاق مع السعودية. صحيح ان الاتفاق مع السعودية لم يحقق حتى الآن اي مكسب ملموس لإيران على ارض الواقع، لكن السؤال الاهم يتعلق بالملف النووي وما اذا كانت ستُعاد إحالته الى مجلس الامن القومي، والذي تم تعيين شخص ينتمي الى الحرس الثوري في رئاسته.

رحيل شمخاني لن يؤثر بالتأكيد على السياسة الانفتاحية لإيران في اتجاه الخليج والتي تبقى قرارا على مستوى خامنئي، لكنها تطرح علامات استفهام حيال المقصود منها في اتجاه الملف النووي. لكن الاكيد أن الوقت بدأ ينفد، وسط اقتناع ديبلوماسي بأن لا احد يملك ترف المواجهات والحروب، وان الديبلوماسية والتسويات هي الأقرب، وهو ما يراهن عليه لبنان.