IMLebanon

العراق نطَقَها… ولبنان الإيراني يغص بها

 

 

مصادفة مدعاة للتأمل، ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه الرئيس الجزائري يعزل رئيس جهاز المخابرات ويتم إيداعه السجن تمهيداً لمحاكمته بعد ما كان، بطبيعة الحال لمن يتسلم هذا المنصب أحد أبرز مراكز القوى، يواصل مصطفى الكاظمي (رئيس جهاز المخابرات في العراق حتى يوم تسميته من جانب رئيس الجمهورية برهم صالح مرشح التوافق عليه لتشكيل الحكومة) سعيه لإنجاز المهمة، وبالتالي استيلاد الحكومة التي تعسَّر أمر اختيار الشخص الذي في استطاعته أن يكون رئيس حكومة للعراق وليس رئيس حكومة في العراق تتقاذفها رياح الولاءات للنظام الإيراني وبالذات للحرس الثوري في هذا النظام الذي كانت دائماً قبضة جنراله الأقوى قاسم سليماني ضاغطة عند التشاور حول مَن يترأس حكومة العراق ثم أكثر ضغطاً بعد الترؤس.

 

أن ينتهي أمر رئيس جهاز مخابرات معزولاً ثم مسجوناً وقيد المحاكمة ليس حالة جديدة في العالم العربي. ولنا على سبيل المثال لا الحصر ما جرى لرئيس المخابرات المصرية في عهد الرئيس أنور السادات. لكن الحالة المستحدَثة هي أن يقع الاختيار على رئيس جهاز المخابرات بعد التوافق لكي ينهي النظام به أزمة تشكيل حكومة على نحو ما حدث في العراق. والتوافق الذي حدث كان توافُق الاضطرار بعد طول استنزاف للصبر والمماحكات التي لا جدوى منها والتي كان مشهدها أشبه بحرائق مشتعلة فيما مياه النهر تتدفق بجوارها ولا مَن يطفئ النار. فهنالك انتفاضة. وهنالك «جيوش» صغيرة تتناسل وتأخذ من وهج الجيش الوطني ذي التاريخ العريق. وهنالك إرادة قرار مصادرة وتفريس متدرج للسياسة العامة. وما هو أهم من ذلك أن صيحات الثأر لا تهدأ وينادي مطلقوها ضد أميركا بخروجها وتناسي أن الأميركان في شخص بوش الأب ثم في شخص ابنه كانوا بسياستهم وحربهم هم الذين صادروا القدرة الوطنية العراقية على تغيير نظام البعث إسقاطاً وإحلال من ارتأوا إحلالهم مكانه.

 

وعند الحديث عن الصبر، فإن سعة صدر الرئيس برهم صالح وإدارته لأزمة التكليف مثَّلت دفعاً للاقتناع ولو بعد طول أخْذ وكثرة اشتراطات عصية على القبول بأن لا حل للعراق كوطن، وليس فقط لا حل لأزمة تشكيل حكومة جديدة، إلاّ في طي صفحة الإملاءات الخارجية. وعندما تُطوى هذه الصفحة تصبح مبادئ التشكيل هي مفتاح باب العراق المرصود أمام علاقة عربية متوازنة وعلاقة دولية متزنة. وعندما ارتأى الرئيس برهم صالح بمغادرته بغداد إلى السليمانية آخر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، فلكي يسجل نقطة نظام ورفضاً قاطعاً لإصرار المشترطين على حكومة شبيهة بشجرة مغروسة في أرض العراق فيما أغصانها وثمارها عبْر الشط يجنيها الجار الإيراني ويوظفها بكل أنواع التوظيف العقائدي والمالي والتجاري، إلى جانب أن تكون مثل رصاصة في مسدس يهدَّد بها الآخر، وهو هنا المجتمع الدولي الداعي إلى تغيير النهج الإيراني، بحيث تكون إيران دولة وليست بؤرة ثورية تُوزع الإقلاق في أكثر من مكان وبشكل مكثف على دول الخليج والأشقاء العرب الذين يريدون جواراً إيرانياً خالياً من الأذى والتدخل.

 

رفْض الرئيس برهم للإملاءات الخارجية من خلال وجوده في السليمانية وبداية ذبول متدرج في القدرة المالية الإيرانية وانعكاس مفاعيل هذا الذبول على الأذرع الإيرانية في الخارج وبالذات في العراق ولبنان واليمن، ثم المفاجأة الكورونية التي أربكت ذوي العناد والمكابرة، أوجبت بالنسبة إلى اللوبي الإيراني في العراق أن يقرأ كتاب الوضع كما تستوجب القراءة الصحيحة وليس كما الهوى. وعلى هذا الأساس استقر رأي أُولي التعطيل التقليديين على أن يؤخذ برؤية رئيس الجمهورية برهم صالح واختياره مصطفى الكاظمي مدير المخابرات لتشكيل حكومة تسترضي كل الأطراف وتلقى الرضا من هذه الأطراف في ظروف اضطرارية عاشها الناس في العراق طوال عشر سنين عجاف. وبدا اختيار التوافق على مصطفى الكاظمي للترؤس، رغم أن عدنان الزرفي كان هو الآخر من أصحاب الرؤية الواقعية لوضع الوطن على أُولى محطات انطلاق قطار تصحيح مواقف أعاقت العراق سمعة وطمأنينة، أشبه باختيار الرئيس دونالد ترمب يوم 13 مارس(آذار) 2018 مايك بومبيو مدير وكالة المخابرات المركزية وزيراً للمنصب الثاني الأهم في الدولة الأميركية. كما أنه أشبه باختيار الرئيس رونالد ريغان، رئيس المخابرات المركزية زمنذاك جورج بوش الأب لمنصب نائب الرئيس.

 

المتوقَّع للعراق لمجرد انحسار المخاطر الكورونية والخطر الداعشي المتجدد حَراكه، هو أن يكون العراق المأمول دوراً ونهوضاً ما دام من سيشكِّل الحكومة حدَّد ومن دون التحسب لهذا أو ذاك أو أولئك يسجلون الاعتراض على تكليفه، خريطة طريقه التي لخص معالمها بما قل ودل من التعهدات على النحو الآتي: «السيادة خط أحمر ولا يمكن التنازل عن كرامة العراق. العراق للعراقيين وقرار العراق بيد أبنائه. سنعمل على حصْر السلاح بيد الدولة، فالسلاح ليس من اختصاص الأفراد ولا المجموعات. سيادتنا الوطنية أولاً ويجب أن تقوم علاقاتنا الخارجية على الاحترام والتوازن. العراق ليس تابعاً لأحد. الدولة ليست حزباً ولا طائفة ولا ديناً بعيْنه وعلينا أن نثق بها. لن نسمح بإهانة أي عراقي من أي جهة داخلية أو خارجية عبْر اتهامه للخارج. إعادة النازحين إلى ديارهم هدف لن أتخلى عنه».

 

معنى هذه التعهدات أن من مصلحة النظام الإيراني التعامل مع العراق بعد الآن وفق هذه الخطوط – المبادئ التي مِن شأن الأخذ بها استعادة العراق رقماً يُحسب له حساب يرتاح له الجار العربي ويخفف الجار الإيراني من أثقاله عليه. وشيئاً فشيئاً يستعيد العراق شأنه كثاني دولة نفطية، لا يتعثر في تأمين متطلبات الشعب ويحقق مطالب المنتفضين ويسدد ما تبقَّى عليه من ديون… وينتقل بالتالي من دولة مهمومة إلى دولة تستعيد مكانتها في خريطة المنطقة. وهذا وارد الإنجاز ما دام تنفيذ خريطة الطريق سيبدأ.

 

ما فعله الثنائي برهم صالح – مصطفى الكاظمي أمثولة لمن يريدون صدقاً صون وطنهم وكرامته واستقراره وإبقاءه في منأى عن الغلو الثوري وإبراء الكيان الذي أمعنوا فيه بعثرة ووضْعه من جديد في المكانة التي يستحقها.

 

والأمثولة برسم الثنائي اللبناني رئيس الجمهورية ميشال عون الذي نتمنى أن يكون مثل برهم صالح، وحسن نصر الله الذي نتمنى ألا يغص فيما نطقه مصطفى الكاظمي… مع الأخذ في الاعتبار أن لبنان أكثر حاجة إلى استنساخ الأمثولة الكاظمية من العراق نفسه. كما هي برسْم ما تبقَّى من مهابة الرئيس بشَّار الأسد الذي إذا نطق بما نطقه الكاظمي فإن سوريا تعود سوريا العربية وقد تجردت من ثوبها الإيراني – الروسي الذي أرخى أقتم الظلال على تاريخها الوطني. والله الهادي إلى سواء السبيل.