IMLebanon

هل يستجيب تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى الحوار في زمن الصراع الدامي؟

ما بين دعوة الأزهر.. وصرخة الراعي ومبادرة ضو

هل يستجيب تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى الحوار في زمن الصراع الدامي؟

في الثالث والعشرين من شهر تموز عام 2014 خرج البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي بموقف من موضوع تهجير المسيحيين في الموصل في كلمة ألقاها خلال عشاء اللجنة الاسقفية لوسائل الاعلام، اذ وجه رسالة الى تنظيم (الدولة الاسلامية «داعش») جاء فيها:»واحدة فقط تجمعنا بكم هي انسانية الانسان. تعالوا نتحاور ونتفاهم على هذا الاساس… انتم تعتمدون لغة السلاح والارهاب والعنف والنفوذ، أما نحن فلغة الحوار والتفاهم واحترام الآخر المختلف… ونسألكم ماذا فعل المسيحيون في الموصل وكل العراق العزيز لكي تعاملوهم بمثل هذا الحقد والتعدي؟»

ورغم أن كلمة البطريرك جاءت مقسومة ما بين إدانة أفعال التنظيم وبين الدعوة إلى الحوار، وهذا هو الأمر الطبيعي لمن يريد الحوار.. إلا أنها لاقت ردات فعل غاضبة ورافضة أدت إلى تراجع البطريرك الراعي عنها، وإلى تواري هذه الدعوة خلف الدخان المتصاعد جراء احتدام الصراع المسلح بين التنظيم وخصومه المحليين على امتداد الساحتين العراقية والسورية.

إلا أن المفاجئ أنه وبعد تشكل الحلف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، برز تحرك كنسي شبيه، أو استكمالي للفكرة التي سبق للبطريرك الراعي أن طرحها، وتمثل في مبادرة الأمين العام للجنة الحوار المسيحي – الاسلامي الراهب الانطوني الاب انطوان ضو إلى السعي للقاء قادة في التنظيم في جرود عرسال بغية فتح نافذة حوارية.

وفي حديث إلى المؤسسة اللبنانية للإرسال (أل بي سي)، أكد الأب ضو أنّ هدفه كان القول لـ»داعش» أنّ الدين الاسلامي هو دين سلام والتشديد على ضرورة التلاقي من أجل تخفيف حدّة التوتر، كما أوضح الأب ضو أنّه لا يخشى الصعود الى جرد عرسال لأنه معتاد على حوار الجماعات الاسلامية منذ عشرات الأعوام .

الى ذلك، أشار الأب ضو في حديث آخر لصحيفة «النهار» الى أنّ «زيارتي لداعش كانت بهدف المعايدة بعيد الميلاد وراس السنة والمولد النبوي، لكن الظروف الامنية لم تسمح بذلك».

وعن موافقة بكركي عن هذه الزيارة، قال ان «الزيارة ليست رسمية باسم الكنيسة، انما هي مبادرة خاصة قام بها عدد من مشايخ طرابلس بهدف الحوار مع الطرف الاخر لاحلال السلام وانهاء الاقتتال ومنع سقوط الابرياء من المسلمين والمسيحيين». ورداً على سؤال حول امكان خطفه من «تنظيم الدولة» في حال صعد الى الجرد، أجاب:»ان سلامتي مضمونة من التنظيم الذي رحب بهذه الزيارة.

وأوضح الأب ضو ان «هدف الزيارة ليس سياسيا، انما الهدف فتح حوار مسيحي- اسلامي، وذلك تحت عنوان محاورة جميع الناس».

في الجانب العملي، أكّد مصدر عسكري أنّ «الجيش منع الأمين العام للجنة الحوار الإسلامي المسيحي الأب أنطوان ضو من زيارة المسلحين للتفاوض في قضية العسكريين المخطوفين خوفاً على وضعه، لأنهم قد يُقدمون على اختطافه، خصوصاً أنه ينتمي الى الدين المسيحي، وهذا ما يزيد وضع المخطوفين تعقيداً ويدخل كعامل مسبّب للفتنة بعدما نجح الجيش والقوى السياسية في احتواء كل فتيل فتنة بعد تصفية أحد العسكريين المخطوفين».

أبعاد الخطوة ومعانيها

 رغم تأكيد الأب ضو أن المبادرة ليست باسم الكنيسة، إلا أن الأكيد أن الكنيسة لم تعترض عليها، وأنها وُضعت في أجوائها، ولم يكن أحد يريد أن تأخذ الطابع الرسمي، بانتظار نجاحها من جهة، وخشية ردات الفعل السلبية من جهة أخرى.

الواضح في هذه الخطوة أنها جاءت في ظل أوضاع تزداد تعقيدأ على المستوى الإقليمي وترتفع فيه حرارة الصراع، ولا يبدو في الأفـق مخرج جدي لأزمات المنطقة، حيث المراوحة سيدة الموقف والأمر الواقع للقوى المسيطرة ميدانيا يتكرس، والحرب على تنظيم الدولة، باعتراف أعدائه تستلزم سنوات للقضاء عليه وإزالته عن الخريطة.

من المرجح أن هذه المراوحة هي أحد عوامل التحرك الذي قام به الأب ضو، حيث كان واضحاً أن المقصود ليس المشاركة في حفلة التفاوض والوساطة حول العسكريين المخطوفين، وإنما الهدف هو بدء حوار ما، والتقاط طرف خيط في سبيل إقامة قناة تواصل تبحث في قواعد الحوار، وكيفية إقامته، وآلياته وسبل وصوله إلى أهداف مقبولة من الطرفين.

ينطلق الأب ضو من رؤية قوامها أن المسيحيين ليسوا غرباء عن الحضارة الإسلامية والعربية، وأنهم كانوا على مرّ العصور جزءاً من هذه الحضارة، بل إنهم شاركوا في منظومة الحكم وزراء ومستشارين وخبراء وعلماء وشكلوا عنصر تطوّر وازدهار في الحركة العلمية والاقتصادية والثقافية. ومن هنا لم يشكل الوجود المسيحي في الدول الإسلامية المتعاقبة، عنصراً نافراً، بقدر ما كان عنصر تكامل وتعاون.

فالمسيحيون في الشرق كانوا دوماً جزءاً من الدولة والحضارة الإسلامية، وأنهم أهل كتاب وأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وأن المشكلة ليست في قيام كيان إسلامي، بل السؤال هو هل سيكون هذا الكيان عادلاً يحفظ لغير المسلمين حقوقهم، ويتيح إشراكهم في البناء الحضاري الإسلامي.

ورغم الصورة السائدة عن تنظيم الدولة الإسلامية، لجهة التشدّد واعتماد الأساليب العنيفة، إلا أن الأب ضو يبدو واثقاً من قدرته على إدارة الحوار مع من ينتدبه التنظيم للبدء في النقاش على كلمة سواء، كما يردّد دائماً في هذا المجال، مضيفاً: لسنا في موقع العداء معهم، وإن كنا نختلف معهم فيما يفعلون، ولكننا لا نناصبهم العداوة، وإذا أرادت الدول قتالهم، فلها رؤيتها ومصالحها، ولكننا أصحاب دعـوة سلام، ونصرّ على حملها والدفاع عنها.

النقاش المنتظر بين الأب الإنجيلي أنطوان ضو ومحاور أو أكثر من تنظيم الدولة الإسلامية، سيكون، إذا حصل، الأول من نوعه، ولن يقتصر على الجوانب اللاهوتية، بل سيشكل نقطة بحث في وضع المسيحيين ومصيرهم في الشرق، وتحديداً في سوريا والعراق، وسيتخلّله تفتيش وتنقيب صعب، عن نقاط اجتماع، كان أولها الانتماء الإنساني الذي سبق للبطريرك الراعي أن أشار إليه، ولكنه لا بـدّ أن يتطرق أيضاً إلى المصالح وصراع الدول والمحاور، وهنا يبرز خطر انضمام بعض المسيحيين إلى ما يسمى حلف الأقليات، وما أنتجه هذا الانخراط من تداعيات كارثية على النسيج الاجتماعي والوطني في الشرق.

الأزهر: دعـوة للحوار وصولاً لوقف التطرف

 لم تكن دعوة البطريرك الراعي إلى الحوار مع تنظيم الدولة هي الدعوة الوحيدة، بل إن شيخ الأزهر الشريف، حيث أكد الأزهر انفتاحه على أقصى الخيارات الممكنة للانفتاح، ومنها الحوار مع تنظيم «الدولة الإسلامية»، حيث أكد شيخ الأزهر أحمد الطيب، بأنه سوف يجتمع بقيادات الجهات المتصارعة، ولديه استعداد لأن يلتقي حتى بالمتطرفين أنفسهم؛ إن كان في حديثه معهم أمل لإعادتهم لاعتناق أفكار وتعاليم الإسلام الصحيح والابتعاد عن التطرف والإرهاب»..

الحوار والنقاش ينطلقان من خلفيات متباعدة، ومن أطر مختلفة، لكنهما يلتقيان عند هدف أساس: وهو ضرورة إيجاد وسيلة أخرى غير المواجهة العسكرية، التي باتت تشكل عبئاً على العالم بأسره وتهدّد بفتح أبواب جديدة للعنف، وتعريض بلدان إضافية لمخاطر الصراع.

السؤال الأكبر الآن:

هل بوسع تنظيم الدولة الإسلامية إدراك أهمية الحوار والانفتاح وامتلاك ناصية قبول الأفكار المختلفة، وفهم طبيعة الصراع وضرورة إيجاد مسالك سلمية وخيارات تفاوضية وأطر وقنوات تساهم في التبريد والتهدئة..

وهل بوسع «الدولة الإسلامية» إدراك أهمية الاستجابة لمثل هذه الدعوات، والانخراط في آليات الحوار، مع ما تمثله هذه الخطوة من اعتراف مبدئي متبادل منها ومن خصومها بالواقع وبالآخر..؟؟

 صحيح أن للأزهر الشريف رؤيته المخالفة لتنظيم الدولة، وصحيح أن بين الكنيسة والتنظيم بوناً عقائدياً شاسعاً، وصحيح أن علماء كباراً آخرين في العالم العربي وعلى امتداد العالم الإسلامي، يلتقون أو يفترقون مع قواعد تفكير وعمل تنظيم الدولة.. لكن الصحيح أيضاً أنه لا بد لقادة التنظيم أن يدركوا أن القوة وحدها لا تصنع المعادلة الرابحة في هذا العصر، وأن الإسلام يحتاج إلى فهم معاصر لا يلغي كلياته، ولا يطيح بثوابته، وأن الأولويات في التغيير تبقى محل اختلاف في الكيفية والتوقيت، وأن قاصمة الظهر هي داء التكفير، الذي رفض الأزهر رميه على تنظيم الدولة، رغم مخالفته لها في الرأي والمنهج..

فهل نرى تحولاً أو بداية تحوّل في سلوك تنظيم الدولة الإسلامية، يؤدي إلى إعادة ترتيب في الوسائل والأساليب وفي المقاربات للوقائع؟؟

 إن التحولات أمر حتمي في مسار التنظيمات والكيانات والدول، وكل مجموعة تريد أن تبقى وتستمر لا بد لها من أن تتطور وتتغير وفـق مستلزمات الواقع، بالتوازي مع إبداعها في إيجاد وسائل للتمسك بثوابتها ومبادئها. وهذا هو المسار الذي يفترض وينتظر من تنظيم الدولة الإسلامية سلوكه إذا أراد القائمون عليه إبقاء خياراتهم مفتوحة على

 سؤال أخير: هل سيعتبر البعض أن دعوة تنظيم الدولة إلى اعتماد الحوار وإلى تطوير رؤيته وتطبيقه للإسلام، نوعاً من «دعم الإرهاب»؟

 نتوقع أمام ضحالة البعض وحقد البعض الآخر، أن تواجه هذه الدعوة بالكثير من الغلو والتطرف والإرهاب الفكري، لأن هناك من بنى ويبني وجوده على أساس استمرار الصراع، وانتفاء الحوار، وعلى الاطمئنان إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية، هو تنظيم مغلق، لا يعرف غير الصراع سبيلاً، ولا مكان لديه للسياسة والتفاوض والحلول الوسط..

قد يكون هذا صحيحاً، وقد لا يكون هو حقيقة الموقف، وربما تكون المسألة قابلة للتغيير والتطوير..

لكن السؤال الأهم هو: هل المصلحة الحقيقية لشعوب المنطقة تكمن في تسعير نار الصراع والعمل على تأجيجها، أم البحث عن سبل التخفيف من حـدة الصراع ورمي أقلام الحوار على الطاولة، لعلها تجدُ كـَتـَبـَةً ضمائرُهم تخاف الله، وتحمل الحبًّ والسلامَ، في وجه آلات الموت والدمار..؟؟؟

 قد لا يوقف الحوار في هذه المرحلة دوامة الصراع، ولن يشكل في وقت قريب قبة حامية في هذا الشرق، لكنه سيؤسّس – إن حصل – نقطة تحوّل لدى تنظيم يصعب عليه الخروج من دائرة القوة إلى دائرة الكلمة، والقناعة الثابتة لدينا هي أن السعي والمحاولة واجب، وإيصال الرأي بجرأة وشجاعة يمكن أن يُحدِث فرقاً، ولو بعد حين.