IMLebanon

قراءة هادئة في الأحداث الساخنة.. عندما يتحوّل الأمن إلى سباق إعلامي

 

ما جرى ويجري أمنياً، ليس سوى مقدِّمة للمزيد من الأحداث الدامية ومن استحضار شياطين القتل والموت، لتأمين البقاء للسلطة الحاكمة.

 

بدأت السلطة اللبنانية تتصرف كأنّ تنظيم داعش قد عاد فعلاً إلى البلد، وباشرت عمليات «وقائية» مشكلتها الوحيدة أنها جاءت بمثابة استجابة لخطاب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله عن إعادة إنتاج هذا التنظيم في سوريا والعراق ونواياه بالعودة إلى لبنان، مما أصاب السلوك الأمني بالكثير من الارتجال والتفلّت من قواعد القانون، بالتوازي مع النبش في أنقاض الإسلاميين السجناء ورميهم بتهم تشكيل مجموعات مسلحة.

 

التناقضات والاضطراب

 

لم تصدّق عيناي ما شاهدته من تطوّرات عجائبية في سلوك القوى الأمنية خلال الأيام القليلة الفائتة، من تناقضات حادثة كفتون إلى تفجير «انتحاري» غير موجود في عكار،وصولاً إلى بيان المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، حول «إرهابي الجميزة» المفترض، وتفاصيله العجيبة، من دون أن يصل قارئُ البيان إلى ما يشفي الغليل في فهم خلفية هذه التطورات سوى ربطها بحاجة ائتلاف السلطة الحاكم إلى استحضار عنصر الإرهاب في المشهد العام، لضرورة استخدامه في إشاعة التخويف من العودة المحتملة لتنظيم داعش إلى الساحة اللبنانية.

 

بيان النوايا الضائعة

 

جاء في بيان الأمن الداخلي أنّه «في إطار خطّة عمل الأمن الوقائي المتّبعة من قِبل شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وبخاصةٍ لجهة متابعة وملاحقة الأشخاص المشتبه بانتمائهم إلى تنظيمات إرهابية، وبنتيجة عمليات الرّصد الدقيقة، تمكّنت الشعبة من تحديد هوية شخص سوري الجنسية، ويُدعى ح. ع. وجرى توقيفه بتاريخ 18-8-2020. واعترف بانتمائه إلى تنظيم «داعش» الإرهابي، وأنّه خضع لدورة شرعية في سوريا لدى التنظيم المذكور، ثمّ دخل إلى لبنان خلسةً (..) وتنقّل بين المناطق اللبنانية.

 

(..) رغب بالعودة إلى سوريا للالتحاق بـ«داعش»، وعندما لم يتمكّن من العودة لعدم حيازته أوراق ثبوتية، استعاض عن ذلك بالتخطيط للقيام بعمليات إرهابية في لبنان، بحيث تواصل مع شخص في الموصل وآخر في سوريا واستحصل منهما على فتاوى شرعية لقيامه بعملية «انغماسية» تستهدف عناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، في محلّة الجمّيزة تحديداً، وذلك كونه وبعد حصول الانفجار بيوم واحد، انتقل إلى الجميّزة، حيث عمل في مجال رفع الأنقاض لقاء بدل مالي. وأثناء عمله، شاهد دوريات للجيش اللبناني ولقوى الأمن الداخلي تتجوّل في المحلة على متن آليّاتها، فتولّدت لديه فكرة استهداف الدوريات بقنابل يدويّة، كان ينوي الحصول عليها من أحد المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. أودع الموقوف القضاء المختص».

 

الملاحظة الأهمّ على البيان أنّه قراءة أفكار ونوايا أكثر مما يحتوي على الأدلّة والوقائع. فالشخص المعتقل لم يرتكب أيّ جرم فعلي، ولم يشكّل مجموعة إرهابية، بل إنّه وحده فكّر وقاده تفكيره إلى أن يطلب فتوى من شخصين أحدهما في سوريا والآخر في الموصل بالعراق، وكأن من يحمل فكر داعش يحتاج إلى فتوى ليقوم بما يؤمن به من أعمال عنف.

 

وإشارة البيان إلى أنّه دخل خلسة إلى لبنان ولم يستطع العودة إلى سوريا لافتقاده إلى الأوراق القانونية، يفتقد إلى الدقة، لأنّ من دخل خلسة يستطيع الخروج خلسة، ومن يفترض أنّه ضمن شبكة إرهابية جب أن تكون لديه قدرات على عبور الحدود.

 

لم يعلن بيان قوى الأمن أنّه صادر من الموقوف أي سلاح أو قنابل، وهذا يعني أنّه لم يقارب التنفيذ ولم يباشر أيّ فعلٍ جرمي، أمّا مسألة أنّه اعترف، فعلينا أن نراجع طويلاً مسائل الاعتراف وتقييمها بعد المحاكمات، هذا إذا وصل الموقوفون إلى المحاكم ولم يبقوا أسرى المماطلة، كذلك لم يشكل الموقوف مجموعة تعاونه في «مشروعه»، ولا تنطبق عليه صفات «الذئب المفرد»، بل إنّه يذكرنا برواية «إنتحاري الكوستا برافا» الذي جرى تصويره على أنّه يستهدف المدنيين في شارع الحمرا، بينما تساقطت أوراق الروايات الأمنية حوله لاحقاً، ليتحوّل إلى ضحية اخرى من ضحايا حاجة السلطة وحزبها الحاكم إلى أوراق الإرهاب للمتاجرة بها محلياً وخارجياً.

 

أين بيان حادثة البيرة؟

 

وبينما كان البحث جارياً عن المجرمين المتورّطين في جريمة قتل الشبان الثلاثة في بلدة كفتون الكورة، قفز الاقتحام لغرفة السوري يوسف خلف (أبو وضّاح) في محلة العامرية – البيرة في عكار، وكان لافتاً قيام القوة الضاربة في شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي بتفخيخ الجدار وتفجيره، بينما قال عدد من الأهالي إنّه جرى قصف الغرفة بقذيفة أدّت إلى إحراقها، وفي كلتا الحالتين، فإنّ العبوة أو القذيفة، كانت إحداهما كافيتان لقتل المطلوب على الأرجح، مما يغلق أبواب التحقيق حول القضايا المطلوب استجوابه فيها، ومنها احتمال أن يكون مشاركاً في جريمة كفتون.

 

لماذا اللجوء إلى التفجير، أو القصف، بينما بالإمكان محاصرة المطلوب وإجباره على الاستسلام للحصول على ما لديه من معلومات يفترض أن ترشد التحقيق وصولاً للعدالة، ولماذا كانت أجهزة أخرى على علم مسبق بأنّ الغرفة فارغة، بينما حشدت القوة الضاربة مجموعاتها من بيروت لتنفيذ العملية في عكار؟

 

ومن الغريب أننا لم نعثر على بيان لقوى الأمن الداخلي يفسّر ما جرى، باستثناء ما تداولته وسائل الإعلام بشكل عشوائي، وهي ذهبت في شأنه مذاهب شتّى، بينما يغيب عن الموقع الرسمي لقوى الأمن أي بيان رسمي في واقعة البيرة، رغم إصدرها بيانات حول حوادث أدنى أهمية وأقلّ وقعاً، لهذا فإنّ فعاليالت عكار تنتظر صدور البيان الشافي حول ما جرى بعد أن حمّله بعض الإعلام ما لا يحتمل.

 

لماذا العودة إلى ترهيب «الإسلاميين»؟

 

أخيراً، بدأنا نرصد ظاهرة العودة إلى تخويف السجناء السابقين أو الملاحقين في قضايا تتعلّق بالإرهاب، وإيهامهم بأنّهم مطلوبون وملاحقون وأنّه يتحتّم عليهم مغادرة أماكن سكنهم و»الهروب» حتى لا يتعرّضوا للاعتقال والتعذيب والسجن، ولهم تجارب مريرة في هذا المجال. والهدف من عملية الترهيب هذه دفع أعداد من «الإسلاميين» إلى الفرار التدريجي نحو مناطق جبلية أو أحياء مهمّشة، تماماً كما حدث في ما يسمى أحداث الضنية، حيث تعمل أدوات الممانعة على استقطابهم وتنظيمهم تحت مسميات جهادية لتكرّر بهم إعادة وصم المناطق ذات الغالبية السنيّة بالإرهاب، وتعرضها للمزيد من النكبات.

 

السلاح: الرعب المقيم

 

ولا يمكن سردُ المخاطر الأمنية والاعوجاج في مقاربتها بدون ذكر إشكالية مخازن السلاح والصواريخ والذخائر المنتشرة في المناطق، والتي قد يكون انفجار مرفأ بيروت أحدها، وبات البطريرك بشارة الراعي يحذّر منها «من فوق السطوح» السياسية، ولن يكون بالإمكان الحديث عن الأمان بوجودها إطلاقاً.

 

إضافة إلى كلّ هذه الفوضى المنظمة، يبقى السلاح المتفلّت في المناطق، والذي يُشعل بعلبك وأسواقها، ويوقع الضحايا في عكار، ويصبح أداة نحرٍ للمجتمع عندما ينفلت بلا قيود، وهو يحظى بتغطيات سياسية واسعة، فتتجاهل الأجهزة الأمنية كلّ هذه المخاطر لتدخل في يوميات اللبنانيين البائسة الدّالة على تصدّع الدولة.

 

أنّ ما جرى ويجري أمنياً، ليس سوى مقدِّمة للمزيد من الأحداث الدامية ومن استحضار شياطين القتل والموت، لتأمين البقاء للسلطة الحاكمة.

 

أخيراً، هذه القراءة ليست انتقاصاً من دور القوى الشرعية، بل إضاءة على ضرورة استعادة دورها، فعندما يتحوّل الأمن إلى أداة تتحرّك على هوى السلطة واحتياجاتها الشاذّة، وعندما يصبح الأمن سباقاً «إعلامياً» للاستعراض وإصدار البيانات المدبّجة بالروايات غير المتماسكة، نصبح أمام خطر انهيار آخر ما تبقّى من الدولة.

 

رحم الله وسام الحسن وفرانسوا الحاج ووسام عيد وسامر حنّا وسائر شهداء الشرعية.