IMLebanon

متى نتساوَى مع إسرائيل بقدرة التدمير؟

 

 

سمحَت لي ظروف مهنية، الإطلاع على كتُب «دقيقة» جداً في موضوع «النزاع العربي- الاسرائيلي» وخفاياه متمثّلة بأساس تركيبة العقل اليهودي فالصهيوني، وأساس تركيبة العقل الفلسطيني والعربي، فقد كنتُ مُحاضراً في هذا الموضوع لسبع سنوات في إحدى الجامعات اللبنانية، ومادة «النزاع العربي- الإسرائيلي» بالنسبة إليّ رافقتني منذ كنتُ فتىً مع حرب ١٩٦٧ بين العرب وإسرائيل، ثم في شبابي مع حرب لبنان والفلسطينيين عام ١٩٧٥ وصولاً إلى اجتياح إسرائيل لبنان عام ١٩٨٢ وكل ما تلا ذلك من أزمات وصولاً إلى التحرير عام ٢٠٠٠ فنُزولاً إلى حرب تموز ٢٠٠٦، والكتب والوثائق التي اطّلعتُ في خمسين من حياتي عليها وقرأتُها بإمعان ورويّة ومحاولة فهم الواقع كما هو وكما هيَ أسبابه وكوامنُه، كافية لتُقنعَني بأنّ قضية فلسطين من البداية ليست بين الفلسطينيين واليهود، بل من بداية البداية حتى ما بعد النهاية التي لن تظهر بجلاء لأنّها فضيحة دولية، هي بين اليهود والصهيونية ووراءها دول العالَم الأولِ الفارضِ هيمنته بأسره من جهة على بقية العالَم، والفلسطينيين وبعض دول العالم الثالث أو أحزابه في دوَلة هنا أو هناك!

 

وقناعتي في النزاع العربي- الإسرائيلي ليست مُختَرَعة أو مرَكّبة، بل سليلة حوادث ووقائع وحقائق وهي أنّ اليهود الذين كانوا «مفسِدين في الأرض» في المجتمعات الأوروبية المسيحية منذ القرن الثالث عشر، وطُرِدوا من بلد إلى بلد فأفسَدوا فطُردوا مجدّداً إلى بلد ثالث فبلدٍ رابع وهكذا بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، وصلوا إلى أواخر القرن التاسع عشر وقد تحوّلوا (كفئة لها قوانينُها الخاصة وأساليبها الخاصة في إنكار الآخرين وحقوقهم) مصيبةً كاملةً على كل البلدان والمجتمعات، فدفعَت هذه الدول الأوروبية المأزومة بهم، وبريطانيا أوّلاً، الجمعيات الدينية والسياسية الصهيونية إلى المطالبة بوطن قوميّ… في فلسطين، لتخلِّص أحضانها وجِيرَتها منهم أوّلاً، وثانياً من أجل أن يكونوا في فلسطين رأس جسر استعماري ثابتاً في أرض العرب، ولا لزوم لإطالة الكلام والشّرح!

 

سأقول كلمة قد يجدها بعضنا غير جديّة في وصف إسرائيل، لكنها حقيقة ثابتة: إنّها الدولة الوحيدة المُدَلّلة في العالَم كله بلا استثناء. نَعَم الدلال. فالوطن القومي اليهودي الذي ركّبه الإستعمار البريطاني سرعان ما وجدَ ضالّته في قوة الولايات المتحدة الأميركية الخارجة منتصرة في الحرب العالمية الثانية، فانحاز إليها وانحازت إليه وعُقدَ بينهما الحلف الجهنمي الذي لا يُختَرَق، والدلال على بريطانيا وفرنسا (والاتحاد السوڤياتي) أكمل دلالاً أوسع على أميركا ودول العالَم مع استثناءات قليلة، وخاضت إسرائيل حروبها في ١٩٤٨ وفي ١٩٥٦ وفي١٩٦٧ وفي١٩٧٣ وهي محاطة بعناية غير طبيعية من الدول نفسها التي تُسمّى اليوم «المجتمع الدولي»، وكانت باستمرار مُدلّلة في فَرْضِ الحروب مع العرب وطلَب المساعدات بالسلاح والعتاد من مجتمعها الدولي هذا، ورفْضِ قرارات الأمم المتحدة التي لم تصدر مرة واحدة لصالحها نظراً لثباتها على العدوان المتمادي مراراً وتكراراً، وكانت الولايات المتحدة توظّف نفسها وإمكاناتها وتأثيرها في سبيل إمرار المشاريع السياسية والإقتصادية التي تهمّ إسرائيل وتخدمُها، وما زالت.

 

والدلال هو اليوم، العنوان الذي تُقرَأ فيه زيارة الرئيس الأميركي إلى إسرائيل، لدعمها بما تريد، بعد «الكارت بلانش» الذي حصل عليه نتنياهو من المجتمع الدولي في تأييده بكل ما يقول ويفعل، وقد بدا أنّ العالَم كلّه بحقوق إنسانه البشعة والمكاييل المتذبْذِبة، وتقرير المصير ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة، في لحظةٍ صهيونية عجيبة، لم يعد يسمع بفلسطين ولا بشعب فلسطيني ولا بعرَب ولا بعروبة، وأطفأ عينيه عمّا يمكن أن يكون الردّ الإسرائيلي على عملية غزّة.

 

هذه اللحظة «العالَمية» التي وقفت فيها دول العالَم «الحُرّ» صفاً واحداً خلف أي قرار تتخذه إسرائيل بالردّ، بمجرّد أنّ صورتها اهتزّت وهيبة جيشها تخرّبَت بعملية «حماس»، كانت «لحظة» مشكورةً لأنّها وَفّرت عن المتحدثين بصلَفِ إسرائيل وعنجهيتها مهمّة السجال لإقناع البعض بها، وسمحَت برؤية ذلك الدلال الإسرائيلي بالعين المجرّدة، على دوَل العالَم كافة كأنّها لا ذهنية إبن مدلّل فحسب بل إبن تُطلَقُ أصابعُه على زناد المسدس ليشفي غليل حقده التاريخي والمعاصِر ممن أزعجوه وكدّروا «يوم الغفران» عليه، وقرّبَت الصورة التي كنا نحاول توصيفَها لمن لا يمتلك البُعد التاريخي في حكْمه على المواقف الإسرائيلية منذ نشأتها إلى اليوم، ولم يَعُد مُجهِداً أو مستحيلاً ضربُ الأمثلة على حُمق القيادة السياسية في إسرائيل وعمى القيادة العسكرية، وانصياع المستوطنين لنظريات «شعب الله المختار» الوجودية الخرقاء.

 

إبنُك المدلّل تغضّ النظر عنه أحياناً إذا غضبَ فيكسر لعبتَه مثلاً أو يرمي حذاءه من النافذة أو..أو.. ويملأ بصراخه البيت، أما أن تترك له حرية… الغارات وقصف الصواريخ وضرب المدافع وتكويمِ الجثث والجرحى في أوسع حالات قتل هي جرائم حرب لو كان ارتكبها آخرون، فذلك لا اسمَ لهُ إلّا الجنون… وماذا إذا كان لا يهدأ ولا يَكِنّ إلّا بجنون مقابل؟

 

لقد تحمّلت المنطقة العربية أفظع حركة احتلال يهودية في فلسطين، في القرن العشرين، فطَردَ اليهود الفلسطينيين مليوناً وأكثر إلى البلاد العربية المجاورة، والآن يأتي نتنياهو بتكملة الحل.. وهو قذفُ الفلسطينيين إلى… مصر!

 

ويبدو أنّ الفلسطينيين تأخّروا كثيراً حتى فهموا أنّ «جنون- دلال» عدوّهم لا يواجَه بغيرِ قول الشاعر «وداوِني بالتي كانت هي الداءُ»!