IMLebanon

احتلالٌ بسببِ الآخَرين وتحريرٌ من أجلِ الآخَرين

 

مَن لا يفرحُ بتحريرِ بلادِه جُزئيًّا أو كلّيًا؟ لكنَّ الغصّةَ أنَّ ما كان الاحتلالُ ليحصُلَ في لبنان لو لم نَنقسِم. عادةً تَحتلُّ دولةٌ شعبًا وتُقسِّمُه. نحن انقسَمنا ثم دَخلَ علينا الاحتلال. والأنْكى أنّه حلَّ بينَنا في ثوبِ الملاكِ الحارس وفي دورِ حمامةِ السلام. وأصلًا ما كان اللبنانيّون اضطرّوا إلى خوض معارك التحرير لو كانت الدولةُ تسيطر على أراضيها وتفرِض سلطتَها. فنحن لا نَدفع فقط ثمنَ التحريرِ بل ثمنَ ضعفِ بُنيّةِ الدولةِ أيضًا، وعدمِ تكيّفِ المكونات اللبنانيّة مع الصيغةِ اللبنانيّة العظيمة.

الانقسامُ اللبنانيُّ الطائفيُّ أضعفَ الدولةَ فصار الكيانُ مساحةً سائبة. الاحتلالُ الأوّل كان فِلسطينيا وجَلَب الاحتلالَ السوريَّ، والاثنان جَلبا الاحتلالَ الإسرائيلي. ما دخلت إسرائيلُ الجنوبَ إلا بعدما احتلّه الفلسطينيّون وحوّلوه قاعدةَ انطلاقٍ عسكريّةً ضدّها. حين كان الجنوب لبنانياً في ظلِّ الجيشِ اللبناني، لم تطأ القوّاتُ الإسرائيليّةُ أرضَ لبنان بين سنتي 1948 (نشوءُ إسرائيل) و 1969 (اتفاقيّة القاهرة). ولقد تمكّنت الديبلوماسيّةُ اللبنانيّةُ بين سنتي 1969 و 1978 ـــ وقبلَ هذه السنوات ـــ أن تَحولَ دون أيِّ احتلالٍ إسرائيلي، رغم كل الحروب العربيّة – الإسرائيلية (1948 – 1956 – 1967 – 1973).

 

ورغم اجتياحِ إسرائيل الجنوب في آذار 1978 لإبعادِ المنظّمات الفِلسطينيّة عن حدودِها، نجح لبنان في انتزاع القرارين الدولييّن 425 و 426 اللذين نَصّا على انسحاب إسرائيل من الجنوب فور انسحابِ الفلسطينيّين ووقفِ عملياتِهم العسكريّة. لكن ما حصل جاء عكس مضمون القرارين: فبعد أن كان الجنوب قاعدةَ المقاومةِ الفلسطينيّةِ فقط، صار كذلك ساحةَ تصفيةِ الحساباتِ العربيّةِ والدوليّة، وورقةَ مقايضةٍ بيد سوريا في مفاوضاتِها مع إسرائيل حول الجولان.

 

أنشأت إسرائيل دويلةَ “لبنان الجنوبي” فلجأ إليها لبنانيّون من كلِّ الأديان والمذاهب هربًا من الممارسات الفلسطينيّة (لا يستطيع القارئ الذي لا ينتمي إلى جيل الحرب أن يستوعبَ معنى ما أكتب من دون العودة إلى وقائع تلك المرحلة). وكلّما كانت الدولةُ اللبنانية تسعى لإنهاءِ الاحتلالِ الإسرائيلي وحلِّ الدويلةِ الحدوديّةِ، كان الفلسطينيّون والسوريّون: يحرّكون جبهةَ الجنوب، يمنعون الجيشَ اللبنانيَّ من التوجّه إلى هناك، ويعطّلون تنفيذَ القرار 425. بدا واضحاً التواطؤُ السوريُّ – الإسرائيليُّ على الجنوبِ خصوصاً، وعلى لبنان عموماً.

 

كَبُرت الصراعاتُ في الشرق الأوسط وتَقدّمَ مشروعُ السلامِ العربي – الإسرائيلي مع اتفاقاتِ كمب دايفيد وزيارةِ الرئيس المصري أنور السادات إلى أورشليم. استنفَر الاتّحادُ السوفياتي، وكنا في أوجِ الحربِ الباردةِ بين موسكو وواشنطن، فدَعَمَ سوريا والمنظّمات الفلسطينيّة وأحزاب “الحركةِ الوطنيّة” في لبنان. وجَّهت إسرائيلُ سلسلةَ إنذارات إلى لبنان عبر واشنطن وباريس من أجل تهدئةِ الوضع في الجنوب. لكن سوريا التي كانت تحتلُّ لبنان وتُملي إرادتَها على الدولة، شجّعت العنف في الجنوب، وعَمَّمته على العاصمة بيروت (حرب المئة يوم صيف وخريف 1978) وزحلة (1980/81) والشمال وسائر المناطق اللبنانية؛ فتصدّت المقاومةُ اللبنانيّةُ للسوريّين في كلِّ لبنان بين سنتَي 1978 و 1982.

 

اجتياح لبنان

 

مع ازدياد الاعتداءات الفلسطينيّة في الجنوب والسوريّةِ في الداخل، ومع نجاح بشير الجميّل في فرضِ دورِه القياديّ وبروزِه المحاور القويّ للمجتمعين العربيِّ والدوليِّ، شنّت إسرائيل في 05 حزيران 1982 حربًا في لبنان ضدَّ الوجودِ الفلسطينيِّ أساساً والسوريِّ استطراداً. دمّرت إسرائيل البنية العسكرية الفلسطينية في الجنوب وبيروت، وقَضَت على القدراتِ السورية البرية والجوية في البقاع، ثم توجّهت نحو الدولةِ اللبنانية تطلب التفاوضَ والسلامَ كشرطٍ لانسحابها.

 

بعد استشهاد رئيس الجمهوريّة المنتخب، الشيخ بشير الجميّل، وافقت الدولةُ اللبنانيّةُ على المفاوضاتِ برعايةٍ أميركية وأيّدتها الدولُ العربية قاطبةً. حتى أن سوريا لم تمانع لكنها ربطت موافقتَها بنتائج المفاوضات. وحين توصّلت الحكومةُ اللبنانية برئاسة شفيق الوزّان إلى اتّفاقِ 17 أيار سنة 1983، وافق عليه المجلسُ النيابي بأكثريةٍ إسلامية ومسيحية كبيرة. لكنَّ رئيسَ الجمهوريّة آنذاك، الشيخ أمين الجميّل، جمَّده ولم يوقِّع عليه خوفاً من ردّ فعل سوريا، وأمَلاً بالوصولِ إلى اتفاقٍ مماثلٍ معها أيضًا. وأصلاً ما كان الرئيس الجميل مُتحمّساً للعلاقاتِ مع إسرائيل.

 

رفضت سوريا اتفاقَ 17 أيار ولم تدافع إسرائيلُ عنه. رفضته سوريا لا حرصاً على تحرير الجنوب اللبناني من دون اتفاق سلام، بل لأنها كانت تنتظر أن تضغط أميركا على إسرائيل لتوقّع معها “17 أيار سوري” خاصاً بالجولان، ولأنها كانت تتوقّع ألا يفرض اتفاق 17 أيار اللبناني انسحابَ جيشها من لبنان. أما إسرائيل فاستاءت من موقف الرئيس الجميّل وتركت الأوضاع اللبنانية تتدهور واعتبرت لبنان الداخلي خارج اهتماماتها المباشرة. استغلّ تحالفُ سوريا والأحزاب اليسارية في لبنان هذه المعطى وتواطؤَ إسرائيل في حرب الجبل لشنِّ معاركَ ضد الحكم اللبناني الذي اضطُر أخيراً إلى إلغاء اتفاق 17 أيار. سقط الاتفاق وبقيت إسرائيل في الجنوب، وسوريا في الباقي من لبنان باستثناء الأراضي التي كانت المقاومة اللبنانية حرّرتها بقيادة بشير الجميل.

 

في هذه الأثناء بدأ يظهر العاملُ الإيراني. استقرّت الثورة الإيرانيّة في طهران وشَرعت تصدّر مشروعَها فبلغ لبنان أوّلًا… بصفته نقطة الضعف الأبرز في المنطقة. وبعد أن كانت مقاومةُ إسرائيل محصورةً ببعض أحزاب اليسار اللبناني وحركةِ أمل، دخل “حزب الله” تدريجاً على الخطّ إلى أن أصبح قائدَ المقاومة الإسلامية في الجنوب. صحيحٌ أن مقاومي “حزب الله” لبنانيون وهاجسهم تحريرُ الجنوب والبقاع الغربي، لكن لا هُم ولا أحد ينكر أن “حزب الله” يحمل المشروع الإيراني لا القضيةَ اللبنانيّة بمفهومِها التاريخي. ومن كان يشك في ذلك في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أتت مشاركة الحزب في حروب دول الشرق الأوسط بدءاً من سنة 2012 لتزيل الشك.

 

حصل تحريرُ جنوب لبنان والبقاع الغربي في 25 أيار 2000. هلّلنا وفرِحنا، حتى أن الدولةَ اللبنانيّةَ ألغت عيد الشهداء في 6 أيار، الذي نحتفل به منذ عقود وعقود، واستعاضت عنه بـ 25 أيار. كأن تحريراً يُلغي آخَر. بدعةٌ فريدة في تاريخ الأمم. لكن ما لا يعرفه اللبنانيّون أنَّ إسرائيل قررت الانسحاب من لبنان نهائيًّا سنة 1996 قبل اعتداءِ نيسان الشهير وسقوطِ أطفال بلدة قانا. يومها كانت المفاوضات السوريةُ – الإسرائيليةُ تتقدّم برعاية أميركيّة، وكانت وديعةُ اسحق رابين حول الجولان، وكان اجتماع الرئيسين حافظ الأسد وبيل كلينتون مرّتين (1994 في جنيف، و1997 في دمشق). راهنت واشنطن وباريس على هذا التقدم علّه يُسهّل الانسحابَ الإسرائيلي من جنوب لبنان، وكان رهانهُما في محلّه.

 

أبلغ يهودا باراك، وكان رئيس وزراء إسرائيل سنةَ 1996، الجانب الأميركي باستعدادِه للانسحابَ الفوري من جنوب لبنان من دون اتفاقيّة سلامٍ شرط أن ترسل الدولةُ اللبنانيّةُ الجيشَ إلى الجنوب إلى جانب القوات الدوليّة. أطلعت واشنطن الحكومة اللبنانية، فسارع الرئيس الياس الهراوي، بدعمِ الرئيس رفيق الحريري، إلى تلقّف الفرصة وأدلى بتصريحٍ يعلن فيه أن “الدولة اللبنانية مستعدة لإرسال الجيش اللبناني إلى الحدود اللبنانية – الإسرائيلية في غضون 24 ساعة”. سُرَّت أميركا وإسرائيل وفرنسا بالموقف اللبناني، لكن سرعان ما طلب الرئيس حافظ الأسد من الرئيس الهراوي العودةَ عن تصريحه وعدمَ إرسال الجيش إلى الجنوب. لا تريد سوريا أن تنسحبَ إسرائيل من جنوبِ لبنان قبل الجولان. انزعج الرئيس الهراوي، لكن للاحتلالِ أحكامُه… وبالفعل تراجعت الدولةُ اللبنانية عن إرسال الجيش كرمى لعيون سوريا.

 

هكذا ضيّع لبنان فرصةَ التحرير سنة 1996 كما ضيّعها سنتي 1978 و 1982… إلى أن حصل ذلك سنة 2000. بأي كلفة؟ شهيدٌ تلو شهيد. لكن، أين أصبح التحرير اليوم؟ وأين أصبحت الدولة اللبنانية؟ قلّما تحرّرت دولةٌ من دون أن تَتحرَّرَ… وتتوحّدَ وتستقلَّ وتستقرّ.