IMLebanon

مجزرة اسطنبول بداية لمسار دولي خطير

تصاعَد القلق الدولي إزاء الواقع الأمني في تركيا بعد العملية الإرهابية الأخيرة في اسطنبول. وتعود أسباب القلق إلى عوامل عدة أبرزها:

– إنّه الهجوم النوعي الثاني في فترة قصيرة بعد الاغتيال الجريء والغامض في بعض جوانبه والذي طاول السفير الروسي في تركيا.

– سهولة تحرّك الإرهابي الذي نفّذ مجزرته رغم التحذيرات المتعدّدة التي كانت قد أطلقت وبعد حصول عمليات إرهابية عدة في وقت سابق.

– تبنّي قيادة تنظيم «داعش» الرسمي والعلني لهذا الاعتداء الإرهابي، وهو ما يحصل للمرة الأولى بعدما كانت الهجمات السابقة مجهولة التوقيع. وهو ما يعني أنّ «داعش» قطع كلّ «طرق العودة»، ربما لإدراكه أنّ تركيا دخلت في مرحلة جديدة في سوريا تحت سقف الاتفاق الذي ترعاه روسيا.

– إذا كان اغتيال السفير الروسي يفتح باب التحقيقات حول وجود خرق داخل التركيبة الأمنية التركية، فإنّ عملية الملهى الليلي في اسطنبول تُسلّط الضوء على الضعف الذي ينتاب فعالية هذه الأجهزة في بلد اشتهر سابقاً بقبضته الأمنية الفولاذية، ما يُرجّح فرضية تراجع قدرة هذه الأجهزة نتيجة حملات التطهير التي حصلت بعد فشل الانقلاب وما تلاه من توقيف واسع وعشوائي للضباط والمسؤولين.

– الخروق التي نجحت التنظيمات الارهابية في إحداثها داخل النظام الأمني التركي بعد سنوات من التعاون حول سوريا والاحتكاك الدائم بينهما.

ربما هذه الأسباب وغيرها أيضاً، جعلت صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية تقول بثقة إنّ هجوم اسطنبول لن يكون الاخير.

ربما فات الصحيفة المعروفة بمصادرها القوية داخل التركيبة الامنية والعسكرية الاميركية الاشارة إلى أنّ الخطر يحدق بكلّ البلدان المحيطة بسوريا والتي تشكل ساحاتها هدفاً قوياً للتنظيمات المتطرّفة ولو أنّ العمليات الاخيرة كشفت نقاط الضعف في تركيا.

ذلك أنّ التنظيمات المتطرّفة والتي جعلت من سوريا قاعدة لها، باتت تُدرك جيداً أنّ مرحلة التسوية السياسية دخلت مراحلها الجدّية بعد توافق إيران وتركيا تحت القبة الروسية.

ما يعني أنّ الدعم الذي كانت تتلقّاه من الدول الداعمة لإسقاط الأسد سيتراجع، ولو أنه لن يتوقف لأسباب عدة. ما سيعني أنّ إمكانات الاستمرار في تكلفة الحروب والمعارك ستصبح ضعيفة ليصبح البديل منها تفعيل العمليات الامنية والارهابية والعودة الى العمل تحت الارض.

وقد لا يكون هذا هو السبب الوحيد، ذلك أنّ اسرائيل التي نالت صفعة قوية من الرئيس الاميركي باراك أوباما قبل رحيله بأيام عن البيت الابيض، ستعمل لتحدّي قرار الأمم المتحدة عبر الاستمرار في سياسة الإستيطان، وبالتالي حاجتها لأحداث أمنية دامية تسمح لها بالعمل خلف ستار دخان هذه الاحداث.

ويبدو أنّ رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو المحشور في ملف التحقيق معه سيندفع اكثر الى الامام أولاً لإرضاء الشارع، وثانياً لقطع الطريق على أيّ مزايدات عليه. فمثلاً صرّح وزير التعليم الاسرائيلي نافتالي بينيت وهو زعيم حزب «البيت اليهودي» أنّ كلّ مَن يتحدّث عن دولة فلسطينية يعلم جيداً أنّ هذا لن يحدث أبداً.

اذاً، فإنّ المخاطر الأمنية خصوصاً في سوريا والدول المجاوِرة لها قائمة بموازاة انطلاق مسار التسوية السياسية تحت رعاية روسيا.

لكنّ هذه الانطلاقة الفريدة من نوعها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991، لا بل منذ ترتيب نظام عالمي جديد على أنقاض الحرب العالمية الثانية، هذه الانطلاقة التي تغيب الولايات المتحدة الاميركية عن الدور القيادي فيها، أثارت جدلاً كبيراً في الداخل الاميركي حيث الاشتباكات متواصلة بين إدارة أوباما الراحلة وإدارة دونالد ترامب التي تستعدّ لتسلّم مهماتها.

ففي واشنطن جدلٌ بصوت مرتفع ما بين معسكرين متخاصمين حول مكاسب الدور الاميركي وخسائره على الصعيد العالمي.

ففريق ترامب يحمّل أوباما مسؤولية تراجع مفهوم وجود قوة عظمى وحيدة في العالم لمصلحة تقدّم أدوار قوى أخرى مثل روسيا والصين، وأنّ مصطلح القوة العظمى ربما يكون قد عفا عنه الزمن. وبالتالي فإنّ الواقعية تقضي بالتحالف مع روسيا لاحتواء الخطر الصيني القادم.

هذه النزاعات ليست محصورة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي فقط، بل انتقلت الى داخل الحزب الجمهوري الحاكم، حيث يتولّى جون ماكين وليندسي غراهام دور المعارضة الشرسة لسياسة ترامب والقاضية بالتحالف مع روسيا.

وستشهد جلسات مجلس الشيوخ التي ستعقد بدءاً من اليوم لإسماع الموافقة على تعيين ريكس تيلرسون وزيراً للخارجية، نقاشاً حامياً واستجواباً وُصف بأنه سيكون قاسياً حول اعماله التجارية في روسيا لمصلحة شركة «اكسون موبيل».

في المقابل، يتولّى الجنرال المتقاعد مايكل فلين وهو الذي عيّنه ترامب مستشاراً للأمن القومي دور الدفاع عن سياسة ترامب وعلى اساس أنّ محاربة التنظيمات الارهابية في عقر دارها يلزم واشنطن بالتحالف مع موسكو.

وقد يشكل خطاب أوباما الوداعي في العاشر من الشهر الجاري ذروة المواجهة، حيث يصف فريقه خطابه بالقوي والذي يناقض سياسة ترامب، خصوصاً حول التعاون مع روسيا.

فسياسة التحالف مع روسيا تعني حكماً تراجع مستوى التعاون التقليدي والذي كان قائماً تاريخياً منذ الحرب العالمية الثانية بين واشنطن ودول أوروبا الغربية، ويساهم في هذا الاتجاه ظهور قيادات يمينية السلوك في أوروبا تتّفق على محاربة الارهاب ولكن وفق سياسة داخلية متشددة ووفق قاعدة «نحن أولاً»، وهو ما ينطبق أيضاً على العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية.

ويبدو أنّ آخر موقع معتدل داخل أوروبا، وهو انجيلا ميركل في ألمانيا، مهدّد بالسقوط في الانتخابات التي ستحصل في الخريف المقبل لتكتمل الصورة. طبعاً فإنّ سقوط ميركل سيريح روسيا.

لكنّ السؤال الاهم الذي يُطرح هو هل إنّ وصول شخصيات قوية ويمينية متشدّدة الى مواقع السلطة في الدول الكبرى هو مسألة مفيدة للعلاقات الدولية، أم مبعث للقلق؟

الشواهد التاريخية لا تُعطي نتائج واعدة، ولو أنّ المرحلة الأولى من حكم القيادات المتشدّدة يواكبها عادة ازدهار اقتصادي، قبل أن تنتظر شرارة ما تؤدي الى تنفيس احتقانها بالحروب. واليوم تبدو الخلايا الإرهابية جاهزة للمساعدة على تعبئة الساحات و«تقديم» الذرائع والشرارات عندما يحين موعد ذلك. هذا إذا استمرّ المسار العام نفسه.