IMLebanon

التمديد والتعازي ونكسة «التيار» وتهديد هوكشتاين

 

 

منذ بدأ السباق إلى رئاسة الجمهورية، قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، كان بدأ التداول باسم قائد الجيش العماد جوزاف عون كأحد الإحتمالات المطروحة لملء موقع الرئاسة بالرجل المناسب في الظرف المناسب. صحيح أنّ قوى المعارضة رشّحت النائب ميشال معوض ثم انتقلت إلى التقاطع مع «التيار الوطني الحر» على الوزير السابق جهاد أزعور، ولكن قوى الممانعة بقيت تتصرّف وكأن العماد جوزاف عون هو المرشح الوحيد المطروح من وراء الكواليس، ولذلك بقيت متمسّكة بالوزير السابق سليمان فرنجية مرشحاً وحيداً لتحول دون انتخاب أي رئيس لا توافق عليه، وعلى قاعدة «فرنجية أو لا أحد».

كما في كل جولاته السابقة، كانت للموفد الرئاسي الأميركي أموس هوكشتاين محطة أساسية في اليرزة للقاء قائد الجيش العماد جوزاف عون في 4 آذار الحالي. واللافت في هذه المسألة أن محطة اليرزة باتت منذ ما بعد ثورة 17 تشرين 2019، وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، ممرّاً طبيعياً لكل الموفدين الدوليين الذين يزورون لبنان بحثاً عن حلّ. مع أنّ الحلّ الذي بحث عنه هوكشتاين للحدود البحرية لم يكن متطابقاً مع ما ذهبت إليه قيادة الجيش خلال جولات التفاوض الثلاثية في الناقورة بين وفود لبنان وإسرائيل والقوات الدولية، إلا أنّ هذا الأمر لم يُفسِد العلاقة بين قائد الجيش والموفد الأميركي. كان الجيش قد حدّد الخط 29 في البحر كحدود طبيعية للبنان، ولكنّ هوكشتاين استطاع أن يقنع السلطة السياسية بالخط 23. وعلى هذا الأساس بنى الإتفاق الذي حصل بين لبنان وإسرائيل بضمانة أميركية قبل أيام من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. قيادة الجيش كانت أعلنت قبل هذا الإتفاق أنها تبقى تحت سقف القرار السياسي وانتهى بهذا التسليم التمسك بالخط 29، وبقي العماد جوزاف عون على رغم هذا التباين وهذا التنازل في رأس لائحة المرشحين لتولّي منصب الرئاسة.

«التيار» و»الحزب» والقائد

منذ ثورة 17 تشرين بدأ التعاطي مع العماد جوزاف عون على هذا الأساس. صحيح أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون ووريثه السياسي النائب جبران باسيل اعتبرا أنّ قائد الجيش شريك في المؤامرة على العهد، ولكنّ «حزب الله» أيضاً لم يكن بعيداً عن إلصاق هذه التهمة بالجنرال لأنّه اعتبر أنّ ثورة 17 تشرين تستهدفه مباشرة أكثر مما تستهدف العهد. وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يعتبر «الحزب» أنّ انتقال عون من اليرزة إلى قصر بعبدا من الأمور التي يستحيل أن يقبل بها. وفي الوقت نفسه لم يكن من السهل على «الحزب» أن يخرج ليعلن مباشرة أنّه يضع فيتو على ترشيح قائد الجيش لأنّه يعتبر أنّه لا يمكن أن يتحمّل أيّ مشكل مع الجيش ومع قائده إلى الحدّ الذي جعل البعض يعلّق على هذا الأمر بأنّ الحزب يمكن أن يقبل بأن يكون رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع رئيساً ولا يمكن أن يقبل بجوزاف عون. ومن هذه الخلفية بدأت حملة الإعتراض غير الظاهر عليه من خلال المسارعة إلى ترشيح فرنجية وقطع الطريق على أي احتمال لقلب المعادلة وجعل العماد جوزاف عون مرشحاً إلزامياً على قاعدة معاكسة «عون أو لا أحد».

كما تجنّب «الحزب» وقوى الممانعة الإعلان عن رفض قائد الجيش تجنّبت قوى المعارضة الإفصاح عن تأييده. وحده «التيار الوطني الحر» أعلن الحرب عليه متخطّياً تحفظ «حزب الله» وتردد المعارضة. لم يتوان الرئيس السابق ميشال عون ورئيس «التيار» جبران باسيل عن شنّ الحرب على قائد الجيش وصولاً إلى اتهام باسيل له نيابة عن عون بأنّه خان الأمانة وكان قليل الوفاء، واستغلّ وجود العميد موريس سليم في وزارة الدفاع ليتولّى فتح ملفات اعتبر أنّها تضرب الصورة المكوَّنة عن قائد الجيش، الذي جاهد لحفظ المؤسسة العسكرية ومنع إصابتها بالإنهيار الذي أصاب الدولة والمؤسسات الأخرى، بحيث صار صمود المؤسسة وكأنّه الطريق الصحيح لوصول عون إلى قصر بعبدا. وعلى رغم ردّ ديوان المحاسبة لادعاءات التيار والوزير ضده فقد استمرّت الحملة عليه.

إنتخاب غير معلن

مع اقتراب موعد إحالة العماد جوزاف عون إلى التقاعد في 10 كانون الثاني الماضي، اعتبر عون وباسيل أنّ الفرصة باتت مؤاتية للتخلّص من قائد الجيش ولم يكن «حزب الله» بعيداً عن هذا التصور. ولكن فجأة انقلبت المعادلة لمصلحة القائد. بمسعى من «القوات اللبنانية» والرئيس نبيه بري، وبعمل دولي حثيث من جانب اللجنة الخماسية الباحثة عن مخرج مناسب لمشكلة الفراغ في قصر بعبدا، تمّ التمديد للجنرال عون في مجلس النواب في 15 كانون الأول 2023. بعد التمديد وللتخفيف من وقع الكارثة التي حلّت على «التيار» جرت محاولة للفصل بين تعديل سنّ التقاعد وبين الإستمرار بالتمسك بقائد الجيش كمرشّح للرئاسة. ولكنّ الوقائع ذهبت أيضاً في اتجاه آخر.

 

هوكشتاين وبري «THE BOSS»

 

في 5 كانون الثاني 2024 توفِّيَت والدة قائد الجيش. مناسبة التشييع وتقبّل التعازي تحوّلت إلى ما يشبه الحجّ السياسي إلى كنيسة سانت تيريز في الفياضية، قرب مقرّ قيادة الجيش في اليرزة. وكانت الصور التي وثّقت حضور الشخصيات الحزبية والسياسية والدولية مكمّلة لمشهد التمديد في مجلس النواب. كأنّ كل ذلك كان انتخاباً مؤجّلاً له. أضيفت إلى هذه المشهدية مسارعة عدد من نواب «التيار الوطني الحر» إلى الكنيسة لتعزية قائد الجيش قبل مسارعة الرئيس السابق ميشال عون إلى تقديم واجب العزاء ممهّداً الطريق لقيام باسيل بهذا الواجب. بدا باسيل في الصورة إلى جانب جوزاف عون منكسِراً ومحبطاً بحيث كان من الصعب الفصل بين الواجب الإجتماعي وبين التهجّم السياسي.

«حزب الله» الذي لم يحل دون التمديد، حطّ أيضاً ممثلون عنه في الفياضية وفي كنيسة العيشية مسقط رأس الجنرال جوزاف عون. يعرف «الحزب» أنّ الأخير يمكن أن يستقطب الأكثرية النيابية على خلفية أنّه المرشح الذي يمكن أن يحصل التقاطع الحقيقي عليه أكثر مما حصل حول الوزير السابق جهاد أزعور. وهو يدرك أنّه لو استمرّت جلسة 14 حزيران لكان من الممكن أن يكون أزعور رئيساً للجمهورية في الدورة الثانية بأكثرية تتجاوز الـ65 صوتاً. وهو يدرك أيضاً أنه مع «التيار الوطني الحر» لا يمكن أن يحولا دون انتخاب العماد جوزاف عون إذا لم يتضامن معهما الرئيس نبيه بري. ولذلك يبقى تعطيل الجلسات والنصاب مسألة استراتيجية قبل البت بموضوع الرئاسة.

حرب استنزاف عسكرية وسياسية

منذ 8 تشرين الأول الماضي خاض الحزب حرب المشاغلة في الجنوب دعماً لحركة «حماس» في قطاع غزة. ولكن منذ ذلك التاريخ باتت هذه الحرب حرب استنزاف تكلّف الحزب أثماناً باهظة. قبل تلك الحرب كان أموس هوكشتاين قد زار لبنان وإسرائيل أكثر من مرّة بحثاً عن توسيع دائرة الإتفاق البحري إلى اتفاق على ترسيم الحدود البرية، من النقطة B1 في الناقورة حتى مزارع شبعا، في طرح شامل يؤسّس لحلّ يرتكز على تطبيق القرار 1701 الذي يجب أن يلعب فيه الجيش دوراً رئيسياً مع القوات الدولية، ومن الطبيعي مع هذا الدور أن تتعزّز فرص ترجيح كفّة وصول العماد جوزاف عون إلى قصر بعبدا لكي يلتقي القرار العسكري مع القرار السياسي بضمانة أميركية كما حصل في اتفاق الترسيم البحري.

بعد خمسة أشهر على تلك الحرب بات موقف «حزب الله» أضعف. يعلن الحزب أنّه سيوقف الحرب عندما تتوقّف الحرب في غزة. بات في موقع وكأنّه يبحث عن مخرج تماماً كما كان يبحث عن مخرج من خلال وقف إطلاق النار في حرب تموز 2006. بعد تلك الحرب وبعد صدور القرار 1701 عمل الحزب على تخطي مندرجات ذلك القرار ليحتفظ بسلاحه وقواته في منطقة جنوب الليطاني. ولكنّه في الوقت نفسه بقي محافظاً على وقف الأعمال العسكرية كما نصّ القرار وذهب إلى ما سمّاه قواعد الإشتباك التي يحاول اليوم أن لا يوسعها إلى حرب شاملة باعتبار أنّ إسرائيل هي التي تريد هذه الحرب ولن يقدِّم لها المبررات لذك. وقد يكون من المناسب له أن يبحث عن الحلّ عن طريق هوكشتاين.

مهمة هوكشتاين تتوسّع نحو الرئاسة

ولكنّ هوكشتاين بدأ جولته الأخيرة من سقف مرتفع فيه تهديد للحزب. فهو قال بعد لقائه الرئيس بري إن «أي هدنة في غزة لن تمتدّ بالضرورة تلقائياً للبنان، وإنّ وقفاً موقتاً لإطلاق النار غير كافٍ، وكذلك الحرب المحدودة لا يمكن إحتواؤها». هذا الكلام يلاقي الموقف الإسرائيلي الدائم منذ اندلاع حرب غزة وحرب المشاغلة بحيث أن المطلوب إسرئيلياً ليس مجرّد وقف للعمليات العسكرية بل ترتيبات أمنية أوسع تجنِّبها الخطر الذي تعتبر أن «حزب الله» يمثّله على الحدود الجنوبية. هذا التمهيد للوساطة ارتبط على ما يبدو بتوسيع هوكشتاين دوره إلى مستوى البحث عن رئيس بحيث لا ينفصل الحل الأمني عن الحل السياسي. ومن هذه الخلفية كانت لقاءاته مع النائب السابق وليد جنبلاط ومع وفد من نواب المعارضة.

إذا كان «حزب الله» يبحث عن مخرج بعد اقتراب إسرائيل من حسم الحرب في غزة والدخول في مفاوضات صعبة على «حماس» بعد التهديد بالهجوم على رفح، وإذا كان لا يستطيع أن يذهب إلى الحرب الشاملة لمنع هذا الحسم الإسرائيلي فهل يجد نفسه مضطراً إلى القبول بحل شامل يقوم على تطبيق القرار 1701 وتوسيع دور الجيش في الجنوب وتوسيع الطريق أمام وصول قائد الجيش إلى قصر بعبدا؟

يبدو أن مهمة هوكشتاين تنحو في هذا الإتجاه. ويبدو معها أيضاً أنّ «الحزب» أمام خيارات صعبة أحلاها مرّ. فهل يكون خيار قائد الجيش أمنياً وسياسياً ضامناً للخروج من هذا المأزق بانتظار رسم خريطة جديدة للمنطقة قياساً على نتائج حرب غزة؟