IMLebanon

هل «انفجرت» السلطة القضائية بدلاً من انفجار البلد؟

 

 

على وَقع الانهيار المالي تناسلت الازمات لتشمل معظم السلطات الدستورية، وفي الوقت الذي غابت السلطة الاجرائية بخلو سدة الرئاسة، احتفظت السلطة التشريعية بـ»ورقة التين» الشرعية، وما زالت السلطة التنفيذية ممثلة بحكومة تصريف الأعمال في دائرة الشكوك والاجتهادات إلى أن تشظّت السلطة القضائية وبلغت ما يمكن تسميته «الجنون القضائي» فارتقَت الى مستوى وضعها في أرفع سلم الكوارث، بعدما انفجر القضاء بدلاً من انفجار البلد. وعليه، ما الذي تعنيه هذه المعادلة؟

 

إن وجِد من يستغرب ما تعيشه البلاد منذ خلو سدة الرئاسة من شاغلها مطلع تشرين الثاني الماضي من مظاهر الأزمات الكيانية التي تقود الى الانحلال الكامل للدولة ومؤسساتها التي تجمّدت أدوارها او فقدت خدماتها كان يعيش في بلد آخر. وأكثر من ذلك فهو بلا شك فاقد للبصر والبصيرة لألف سبب وسبب. وإن كان الدخول في كثير من التفاصيل التي بات الغوص فيها مُملّا لا يتسع له مقال. فإن ما هو واضح ان لكل حالة إنكار لما كان متوقعاً من انفجار متعدد الوجوه والمظاهر له ما يبرره ولو متأخراً، ومردّه الى المضي في سياسة المناكفات الى الحدود التي لم يكن يتوقعه عقل بشري.

 

وما زاد في الطين بلة، إن فقدان وسائل اللجم والردع والمحاسبة لما كان يجري زاد من خطورة الوضع الى الحدود غير المتوقعة، وعزّز الشكوك في قدرات اهل المنظومة وسقطت كل الرهانات على حنكتهم وقدرتهم على إدارة شؤون البلاد والعباد، ولا يمكن إعفاء احد منهم من المسؤولية وإن تعدّدت الاسباب والظروف التي قادت كل منهم الى ما قاموا به من إجراءات منعت قيامة الدولة واكتمال عقد المؤسسات الدستورية إلى درجة السقوط المدوّي لها، وسط التهديد بالوصول الى مرحلة الارتطام الكبير الذي لم تصل إليه البلاد بعد، وهو ما يفسّر أن ما هو آت قد يكون أعظم.

 

وإن توسّع المراقبون في تفسير هذه المؤشرات وتحدي مخاطرها على لبنان واللبنانيين، فهم قادرون على تقديم سيناريو واضح التطورات السلبية المتوقعة والاسباب التي أدت اليها وما يمكن ان تقود اليه من انهيارات شاملة لم تشهدها أي دولة في العالم حتى اليوم وفق سردية سريعة للتطورات يمكن ان تنطلق من بعض الوقائع، والتي تمتد انطلاقتها قبل مسلسل المناكفات التي أمضت فيها البلاد مراحل طويلة من الشغور الحكومي بعد عامين ونصف عام من خلو سدة الرئاسة مضت سنوات فقدت فيها كل أشكال التعاون والتنسيق الملزم بين السلطات الدستورية الاجرائية منها والتنفيذية والتشريعية، فرفعت المتاريس في ما بينها وبلغت المواجهات حدوداً غير محتملة بعد ان تحولت شخصية بين المسؤولين الذين جنّدوا مؤسساتهم لها ولم يوفّروا سلاحا اداريا او امنيا او ماليا او قضائيا أو حكوميا من دون استخدامه الى أن بلغت بعض الازمات إحراق مراكب العودة الى الشاطئ الآمن بقبول استقالة حكومة مستقيلة فاقدة ثقة مجلس نيابي جديد بعد الفشل في تشكيل اخرى. ولم تقف الامور عند هذا الحد إلى ان استخدم السلاح غير الشرعي والشرعي في بعض الأزمات القضائية، وهو ما عزّز من الانهيارات الكبرى التي تسببت بها الازمة المالية والنقدية وتلك التي تسببت بها جائحة كورونا قبل تفجير مرفأ بيروت والنكبة التي حلت ولم يعرفها أي شعب في العالم.

 

لم يتوقف اي من المسؤولين أمام تداعيات ما يجري، فأنكروا الواقع الصعب وواصلوا الإمعان في تهديم مقومات الدولة ومؤسساتها، ولم يتبرّع اي منهم بتحمّل مسؤولية اي خطأ او جريمة ارتكبت، لا بل فقد قاموا بالمستحيل لإسقاط كل المبادرات الدولية والإقليمية التي انطلقت تجاوباً وتفهّماً من العالمين العربي والغربي لما يعيشه لبنان، وحاولوا استغلال كل أشكال الدعم المادي والمعنوي المباشر لتعزيز مواقعهم. وبدل التجاوب مع ما كان ممكناً منها، ولا سيما منه المبادرة الفرنسية التي حظيت بدعم دولي غير مسبوق، وبقليل من التضحية والمسؤولية، فقد أمعَنوا في سياسة تبادل الاتهامات إلى ان غرقت المسؤولية وضاعت كل وسائل المحاسبة وشلّت كل المحاولات التي كان يمكن ان تؤدي الى مرحلة التعافي والإنقاذ على أطلال شعب ومؤسسات ودولة مدمّرة عاجزة عن القيام بأقل واجباتها.

 

وعلى رغم من كل هذه الوقائع التي لا يمكن ان تخضع لأي مناقشة، يعتقد المراقبون المُحايدون أنه ما زال في الامكان ان يتوافر المَخرج لأزمة السلطة التنفيذية بإمرار بعض الجلسات الحكومية لإدارة مؤقتة لبعض الأزمات المرحلية من دون حل أي منها. وانّ في الامكان ايضا ان يتوصّل قادة الكتل النيابية الى مرحلة انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية في لحظة لم يكن يتوقعها احد إن التقَت بعض الظروف الداخلية والاقليمية والدولية على توفير التوافق على رئيس يتربّع على عرش مدمّر ودولة مهدومة في ظل فقدان المؤسسات التي تحتفظ بهيكلياتها الفارغة ما خلا العسكرية والأمنية منها إن لم تستهدف على خلفيات عدة، فالتهديدات موجودة وقد جرى توثيقها في أكثر من محطة.

 

إلّا انّ ما هو أخطر من هذه الصورة السوداوية التي يمكن ان تتكرس في اي لحظة «مأساة جماعية»، ما شهدته أروقة قصر العدل، والذي يهدد ما تبقّى من مقوماتها. فقد كان الرهان كبيرا على هذه السلطة لتكون ناظمة للحياة العامة والضامن لحقوق الناس في البلد، قبل ان تشهد نوعاً من «الجنون القضائي» الذي شهدته أخيراً بإعلان حال الاستنفار القصوى بين مكاتب القضاة داخل العدلية بعد أيام قليلة على مواجهة قضائية حاول القضاء فيها محاسبة احد أشقاء شهداء المرفأ بتهمة التهديد بتفجير العدلية بعد ان رمى ورفاقه بضعة حَصى على زجاج قصر العدل، فانتفض القضاء لحماية هيبته وفرض احترام كان مرتقباً قبل ان يهدمه القضاة بأنفسهم وحققوا رغبات مَن أراد شَل هذه السلطة وإبعاد سيفها عن رقابهم نتيجة ما ارتكب من موبقات وفضائح قادت الى ما نحن فيه من انحلال حكومي ومالي واداري وحتى اخلاقي ووطني.

 

ليس في كل ما سبق من مؤشرات ووقائع، ما يدعو الى الشك في انّ البلاد باتت على فوهة بركان يحول دونه عدم قدرة المواطنين على الانتقال من منازلهم الى الساحات والشوارع لإقفالها وإعلان قيام الثورة الحقيقية الجامعة لمأساة جميع اللبنانيين التي توحّدهم بمختلف أطيافهم للخروج من جهنم التي يعيشها ملايين اللبنانيين والمقيمين على ارض وطنهم من نازحين ولاجئين ومن مختلف أصقاع الأرض. إلا انّ أخطر ما يواجهه لبنان سقوط السلطة القضائية في فخ الانهيار، ذلك انّ ما تشهده منذ عودة المحقق العدلي الى ممارسة مهامه تجاوَزَ كل التوقعات.

 

وختاماً، لا بد من الإشارة الى الإعتراف الخطير الذي عبّر عنه وزراء عدل وقضاة سابقين وحاليين، بأنّ ما يجري في العدلية تعدّى «الجنون القضائي» في ظل فقدان المخارج الممكنة. والاخطر انّ في عقل وقلب كل منهم موقفاً مؤيداً لكل من طرفي الخلاف، وهو ما يوحي بأنّ الحقيقة التي يبحث عنها اللبنانيون ومنهم اهالي الضحايا والموقوفين والمتضررين والعالم أجمع يحول دون بلوغها الحفاظ على السلم الأهلي. وعليه، هل لعب معارضو البيطار هذا الدور قبل ان يلعبه آخرون؟ وهل انفجرت قضائياً قبل ان ينفجر البلد؟