IMLebanon

هل “تداوي” السلطة القضائية نفسها بنفسها؟

 

من ألف باء، أي نقاش يتناول السلطة القضائية، يُقال إنّها السلطة الوحيدة التي تتمتع بما يضمن ان تدير وتحاسب نفسها بنفسها، وفق سلّم تتدرج فيه المسؤوليات من أعلى سلطة فيها هي مجلس القضاء الأعلى، وصولاً إلى أدناها. وعليه، ولما أصاب التفكّك السلطات الاخرى، بقي هناك من يراهن على ان تقوم هذه السلطة بما يجب ان تقوم به، لوقف مسلسل «الجنون القضائي» الذي تسلّل إليها. فهل ستفعل؟

وضعت السلطة القضائية نفسها تحت المجهر منذ فترة غير قصيرة، بعد ان تنازل البعض عن المهمّات المنوطة به، رضوخاً أمام مجموعة من الإتصالات التي ارتقى بعضها إلى ما يمكن اعتباره بصراحة نوعاً من الضغوط، لئلا يُقال انّها «تهديدات»، تزامناً مع مجموعة من العروض التي تلقّاها آخرون بوسائل متعددة، منها ما كان يلبّي طمع البعض منهم بالمناصب «المدهنة» سياسياً ومادياً وأمنياً وقضائياً. عدا عن تلك التي انساقت خلف السياسات المعتمدة في بعض الملفات الكبرى التي تعدّدت في شكلها ومضمونها نتيجة تفجير مرفأ بيروت، وما قادت اليه أزمة احتجاز المدخرات في المصارف، والحروب المختلفة التي خاضتها السلطات الاخرى في مواجهتها الداخلية المباشرة. وهي استدعت استخدام كل منهم ما استطاع إليه سبيلاً من صرف للنفوذ، فانحرف البعض من القضاة إلى جانب هذا الفريق او ذاك، وبطريقة علنية غير مسبوقة، وتنحّى آخرون بعد ان تسلّلت المذهبية علناً إلى بعض المواقع الحساسة تزامناً مع تداخل السياسي والحكومي منها بالأمني والطائفي والمذهبي، عدا عن تلك المطروحة في أكثر من مناسبة، والتي بنيت على أسس من الترغيب والترهيب.

 

وإلى هذه الحالات – التي لا يمكن التنكّر إلى أي منها، على الرغم من وجود حالات أخرى لا يمكن الإشارة إليها جميعها – فإنّ ما حال دون إرجاء البت بالتشكيلات والمناقلات القضائية في أوانها، زادت في الطين بلة، وعمّقت الشروخ بين المواقع السياسية والحكومية والحزبية، التي نجحت في استغلال بعض المواقع القضائية لتنفيذ سياسات متفرّدة غير جامعة، جعلت التشكيك بهذه السلطة ممكناً ومقبولًا وعلى كل شفة ولسان. وكأنّ ذلك لم يكن كافياً فقد جاءت الأزمة المالية وهزالة رواتب القضاة والتعويضات الملحقة بها، وما أصاب صندوق التعاضد الذي يموّل جزءاً منها، من نفاذ لأهمية وقيمة موجوداته بسبب انهيار العملة الوطنية، ليزيد من عمق الأزمة، فقاد إلى اضراب شامل للقضاة بعد المحامين لم تعرفه قصور العدل من قبل. ونشأت «أندية نقابية» داخلية في السلك لم تكن موجودة من قبل، وشكّلت مجموعات «الواتس أب» نوادٍ متعددة «مقفلة» تسرّبت منها رائحة الخلافات الداخلية ووقائع من إشكالات ونزاعات من ضمن «البيت الواحد»، لم يكن ممكناً بلوغها الرأي العام قبل سنوات عدة، على اعتبارها أنّها كانت من خبايا القصور المحصّنة على مجموعة من الاسرار التي لا يمكن سبرها او الوصول اليها، قبل ان يشير إلى البعض منها من كتب مذكراته بعد التقاعد.

 

ولما باشر البعض من القضاة قيادة المبادرات الخارجية السرية والعلنية، متجاوزين حدّ السلطة والصلاحيات في اتجاه أجهزة قضائية أخرى من دول مختلفة وبخطوات متفرّدة متكئة على دعم سياسي وحزبي «فلت الملق»، وتحولت التحقيقات الدقيقة المتصلة ببعض الملفات الخطيرة، والتي عُدّت بشكل طبيعي من قضايا الرأي العام، مدار نقاش في الصالونات، وتعدّتها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لتستقطب عشرات آلاف المؤيّدين والمتابعين على خلفيات سياسية وحزبية. ولم تقف حلقات المسلسل الجهنمي، فارتقى بعضها ليتحوّل مبادرات تشكّلت بموجبها جمعيات وهيئات دستورية وقانونية وقضائية، تحت غطاء «المجتمع المدني»، لحماية هذا الموقع أو ذاك، تحت شعارات الشفافية والحوكمة، إلى ما هنالك من العبارات الطنانة. ولذلك تعدّدت المواجهات الداخلية على صفيح ساخن، حتى بين النيابات العامة المناطقية والنيابة العامة التمييزية، وراح البعض يجاهر بمواقف غير مألوفة، انتهى البعض منها باستقالات علنية مع ما رافق هذه المواقف من نشر الغسيل الوسخ على السطوح، في ظاهرة لم يعرفها الجهاز القضائي لا في لبنان ولا في غيره من دول العالم.

 

والأخطر من كل هذه المظاهر المريضة و»الخبيثة» التي تسلّلت إلى سلك القضاء، تجرؤ البعض بالادّعاء بالسعي إلى استقلالية القضاء، بمبادرة ادّعت العفة، ليس من اجل الوصول اليها، في ظلّ اقتناع الجميع وعلمهم انّ نصف الطريق إلى هذه الاستقلالية المطلوبة بإلحاح يتوقف على تصرفات القاضي نفسه، وعند أدائه المستقل والمحايد إلى جانب الحق والعدل، قبل ان يتحول مديناً لدائن، يطلب دعماً سعى إليه لدى بعض السياسيين وأصحاب المواقع الحزبية أو الدينية. ولذلك تمادى البعض في تصرفات علنية من هذا النوع، ولم يتوقف عن التواصل او الدخول إلى بيوت الزعماء والسياسيين والمراجع الحزبية والدينية وخلافها، طلباً لدعم فرضته آلية المحاصصة وتوزيع المغانم على أبواب المناقلات والتشكيلات القضائية، او من اجل تطويق ولفلفة فضيحة في قضية كانت قد أُحيلت سراً إلى التفتيش القضائي، او إلى مراجع أخرى، ولا يمكن انتظار ما يمكن ان تفضي إليه من اساءة إن اكتملت دورتها الطبيعية.

 

وإن حضرت هذه الوقائع والتفاصيل في حضرة قضاة سابقين، تتعدّد جداول المقارنة بين ما كان قائماً في ذلك الحصن المنيع وما يجري اليوم. ويروي أقدمهم بحسرة «انّ معظم ما نراه اليوم من الإحالات الى هيئة التفتيش القضائي كان سراً من أسرار أطراف النزاع الشاكي والمدّعي والمدّعى عليه في آن». حتى انّ بعضهم اعترف بمجموعة من القرارات السرية التي صدرت عن هذه الهيئة في حق قضاة كبار ومحاسبتهم وتأخير التدرّج وحتى الإعفاء من الموقع والوظيفة، والتي بقيت من اسرار قصور العدل، ولم يتجرأ احد على الكشف عنها او تسريبها، حتى انّ عدداً منها بقي سراً على عائلته ومحيطه.

 

واستناداً إلى ما تقدّم، لا بدّ ان تأتي اي مقارنة بين ما كان يتمتع به القضاء من هيبة وحصانة وما آل إليه الوضع اليوم، بنصب الحواجز بين المواقع القضائية وعلى مداخل قصر العدل، للفصل بين قاضٍ وآخر، لترفع الرهان من جديد على قدرة السلطة القضائية الحالية على وقف مظاهر «الجنون القضائي» وإعادة إنتاج حصانتها وهيبتها واستقلاليتها بيدها. فلا تنتظر دعماً من احد، وخصوصاً بعض السياسيين المتباهين بعدد القضاة الذين فرضوا وجودهم هنا وهناك. ويتنكرون مرة أخيرة لكل من كان سبباً في توليهم المسؤولية، والعودة إلى تضامنهم ووحدتهم، طالما انّهم كانوا وما زالوا في مركب واحد ومعهم ملايين اللبنانيين الذين راهنوا على دورهم باعتباره ملاذهم الاخير، بمقدار ما يحظى به الجيش والمؤسسات العسكرية والامنية من ثقة ودعم. وليكونوا يداً واحدة يتحدثون بلسان واحد باسم الشعب اللبناني لمواجهة آثار الملفات الخطيرة المؤتمنين عليها، وليس أخطرها جريمة تفجير المرفأ وملفات الفساد والإرهاب والاتجار بالبشر والممنوعات واستعادة المال المنهوب، الذي يبحث عنه العالم قبل أصحاب الرساميل الاصليين من المودعين اللبنانيين الذين افتقدوا جنى العمر.