باستشهاد أمين عام «حزب لله» السيد حسن نصرلله تتأكّد النظرية «الموضوعية» التي يعرفها اللبنانيون جيداً، بأن مصير زعمائهم فور خروجهم عن الطور الاعتيادي التقليدي، ووصولهم إلى مرحلة يتخلّصون فيها من «قيود» يفرضها المتحكمون الخارجيون باللعبة اللبنانية، مُتمردين على قرارتهم، هو الاغتيال.
من الزعيم كمال جنبلاط إلى الإمام موسى الصدر إلى الرئيس بشير الجميّل إلى الرئيس رفيق الحريري إلى السيّد حسن نصرلله، كلٌّ منهم كانت له قوّته الشعبية، الجارفة أحياناً، وكانت أيادي دوَلٍ، تساعدهم في الوصول إلى مراتب عليا في الزعامة، لكنْ كان هناك دائماً سقف، خارجي، يرتطمون به ويرحلون استشهاداً.
في العصر الحديث، كمال جنبلاط قال لا لسوريّا حافظ الأسد بعدما كانت سوريا نالت تفويضاً أميركياً بدخول لبنان وتسوية أوضاع الحرب الأهلية وأوضاع اللبنانيين فيه، وكانت لاؤه قوية وثابتة، فاستُشهد في عملية اغتيال سورية واضحة مهّدت السياسة اللبنانية واللبنانيين أمام الجيش السوري ومخابراته…
الإمام موسى الصدر قال لا قوية وثابتة لتَصرُّفِ ياسر عرفات زعيم الثورة الفلسطينية بأرض الجنوب، ولمّا كان عرفات مدعوماً من أغلب الأنظمة العربية ويتحرك في لبنان حسب مقتضيات ثورته، وجَد في معاندة الإمام الصدر ومطالباته بأن تكون المقاومة في جنوب لبنان من نصيب أهل الجنوب، أبناء الأرض، عائقاً جديّاً أمام تفويض العرب له بالساحة اللبنانية، فتكفّل نظام معمّر القذافي بتوجيه دعوة إليه لزيارة ليبيا، وهناك «أخفاه» القذافي في جريمة موصوفة دولياً!
الرئيس بشير الجميّل، أجرى تحالفاً مع إسرائيل، فاجتاحت لبنان عام ١٩٨٢ ونصّبته رئيساً للجمهورية.. وبعد عشرين يوماً فُجّر فيه مبنى كان يعقد فيه اجتماعاً مع مجموعة من رفاقه. تبيّن أن وراء التفجير شخص من الحزب السوري القومي قيل أنه كان يعمل لحساب سوريا. (وبعض الكتب يجزم إن إسرائيل ضالعة، لرفضه توقيع معاهدة سلام معها، بعدما بات رئيساً «لكل اللبنانيين»)!
الرئيس رفيق الحريري بلغت شعبيّته في لبنان مستوى غير مسبوق وكاد في آخر انتخابات نيابية قبل استشهاده يحظى بأكثرية نيابية من كل الطوائف، لكن القرار الدولي ١٥٥٩ الذي حضّر له مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، والرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، والذي جعلَه قادراً على التأثير في المجتمع الدولي بسياساته، أشعرَ المتربصين (وإسرائيل ليست مستَبْعَدة لحَصْد نتائج الإغتيال على الأرض!) فتم اغتياله في بيروت.
وهذا هو السيّد حسن نصرلله، تجاوز حدود لبنان، بهزيمة جيش إسرائيل أولاً في ٢٠٠٠ ثم في حرب ٢٠٠٦، وشارك في صدّ الحرب الدولية على نظام بشار الأسد، وشارك قادةُ حزبه في تدريب الحوثيين، وكذلك في تدريب العراقيين ضد «داعش»، وبعد «طوفان الأقصى» فتح جبهة الجنوب اللبناني في مهمة إسناد غزّة، ووجّه ضربات موجعة لجيش إسرائيل وتحمّل ضربات إسرائيلية موجعة أيضاً، وربطَ وقف إطلاق النار في الجنوب بوقف إطلاق النار في غزة، وحين دخلت إسرائيل أخيراً في الحرب مباشرةً مع لبنان، كانت الغارة القاصمة على مقرّه في ضاحية بيروت، فاستُشهد.
بناء على هذه الأمثلة الكبيرة يتأكّد أن أي زعيم لبناني مسموح له أن يكبر في لبنان ما استطاع. أما أن يتجاوز الحدود الجغرافية اللبنانية فممنوع.
الانطباع الأوّل الذي تسمعه من النُّخَب ومن الناس البسطاء أجمعين أن إيران «باعت» السيّد حسن نصرلله. ويربطون «البيع» باللامبالاة التي ظهرت في كلام الرئيس الإيراني بوزشكيان حيال «حزب لله» والمقاوَمة، وسط تكهنات مبنية على بعض معلومات بأن «وعداً» أميركياً أُعطي لبوزشكيان بتسهيل الملف النووي إذا نجحت كامالا هاريس في الانتخابات الأميركية، وإذا امتنعت عن الردّ على اغتيال هنية، ما ساعد نتنياهو على «استسَاغة محاولة» اغتيال نصرلله. ومهما يكن الوضع «المقبل» فإن إمكان انتزاع فكرة «بيع» إيران، السيدَ نصرلله إلى الإدارة الأميركية (وإسرائيل)، من أذهان الشيعة اللبنانيين ناهيك عن بقية الطوائف في البلد، باتت مستحيلة. ورفوف التصاريح الإيرانية المستنكرة التي تهدّد إسرائيل «بالزوال» نتيجة اغتيال نصرلله، تلاقي استنكاراً أكبر من جمهور المقاومة قبل أي جمهور آخَر، على اعتبار أن قوة إيران وسمعتها الإقليمية في نصرة القضية الفلسطينية والمقاومة برأيهم، كانت بفضل المقاومة، فكيف بإيران اليوم وهي «المتهم» باغتيال أو بمرور اغتيال رأس المقاومة المدبِّر والمقرّر، بشكل «بارد» عليها.
وفي النهاية: إذا دخلَت إيران في تفاهم مع الأميركيين بشأن الملف النوويّ، هل سيسمح لها نتنياهو الأقوى يهودياً اليوم بإنجازه، وقد خامَرَته أفكار النصر الكبير على «المحور» فراح يتوعّد الحوثيين وإيران نفسها؟
بحسب تجربة أغلب العارفين بتفكير إسرائيل ومواقفها ونواياها، لا يزال هناك اعتقاد على نطاق واسع، عمودي وأفقي في المجتمعَين اللبناني والعربي، بأن إسرائيل ستقصف النووي الإيراني سواء كان هناك تفاهم أميركي – إيراني أم لا، وإنّ أميركا ستتبعُها فوراً في التصديق عليه، وإن إيران ستجد مبررات لعدم الرد أيضاً. فقد سكتت عن إهانة إسرائيل لها بضرب سفارتها في دمشق، وسكتَت على اغتيال إسماعيل هنية وهو في ضيافتها، وسكتَت (حتى الآن!) على اغتيال نصرلله الذي كانت تقول أنها لو مَسّتْهُ إسرائيل «سنمحوها من الوجود»، والسكوت قائم تحت عنوان «المَصالح»، مع أنّ كل واحدة من هذه النقاط كافية للتوقّع بأن «مصلحة» إيران هي في الردّ استرجاعاً لهيبتها… فمَن يستطيع القول اليوم أنها ستردّ إذا ضربَت إسرائيل مفاعلها النوويّ، ولن تُدرجَ عدم الردّ تحت بند «المَصالح».
ومن حقنا أن نتساءل: لماذا لم تُطلّ الصواريخ الدقيقة الموجودة عند المقاومة (كما أكد نصرلله مراراً وتكراراً) في هذه الحرب إلّا لِماماً.. وحتى الآن، مع أن إسرائيل خرقَت الخطوط الحمر كلها وقلَبت الأرض ومَن عليها رأساً على عقب؟ وهل تلك الصواريخ في يد المقاومة كانت وديعةً فقط وممنوع استخدامها إلّا في حرب بين إسرائيل وإيران؟
إنّ أصعب ما يمكن أن يصدّقه الإنسان رؤيةُ نمرٍ يكشف أنيابه في كلّ مناسبة، وعند التحدي الأعظم.. يلوّح باستقالته، ويعلن الحداد لخمسة أيام على مَن صنع لحضوره العربي والإسلامي هيبةً ووزناً في عيون الشرق والغرب!
ولعلّ أفضل الصفات التي تحلّى بها «السيّد حسَن»، فضلاً عن القيادة والاحترام والذكاء، أنّ الناس في لبنان والعالم العربي وحتى إسرائيل، كانوا يصدّقونه في أقواله إذا هدّد، وآرائه إذا شرَح، وعواطفه إذا بكى على المنبر فَقداً لصديق. وما جعلَ أغلب الناس يُصدّقون «وَعدَ الصواريخ من دول المحور» على إسرائيل إذا حاولَت الاعتداء علينا، أنه هو الذي أعلنه. لربما استشهدَ، قبل استشهاده بأيام، حين اكتشف أن «وحدة الساحات» مقتصرة جديّاً على «حزب لله» دون غيره، وأن الآخرين صواريخهم شحيحة. ويمكن أن تكون مَقتلَتُه في إيران نفسها التي التحقَت بركب العادة «العربية»، فباتت تتلقّى الضربات القاسية على كرامتها، بفصاحة الرد «في الوقت المناسب»!