IMLebanon

4 آب 2020 إرفعوا أيديكم عن القضاء 

 

عصر اليوم الرابع من آب دوى في بيروت وتحديدا في مرفئها انفجار ضخم بدا وكأنه عصف نووي أودى بحياة ما يزيد عن المئتي شخص وجرح الآلاف منهم من أصيب بعطل دائم هذا فضلا عما الحقه من اضرار مادية في الأبنية والمساكن القريبة والبعيدة. حيث وصفه الإعلام الغربي بأنه أكبر ثاني انفجار غير نووي في العالم.

اعتبرت الحكومة اللبنانية ان هذه الجريمة تمس بأمن الدولة الداخلي والخارجي ما سمح لها ان تحيلها الى محكمة خاصة هي «المجلس العدلي» واصدرت مرسوما بإحالتها الى هذا المجلس.
من المتفق عليه انه يحق للحكومة ومن دون الإفتئات على مبدأ فصل السلطات وعملا بسلطتها الإستنسابية، ان تتخذ قرارا من اعمال الحكومة تحدد فيه المحكمة المختصة للنظر بالجريمة من دون التدخل في الإجراءات القضائية.
وقد استقر اجتهاد المحاكم اللبنانية على اعتبار ان مرسوم الإحالة يقيد صلاحية المجلس العدلي كما يقيد صلاحية المحقق العدلي بحيث لا يستطيع اي منهما اعلان عدم صلاحيته.
ولهذا يعتبر مرسوم الإحالة قرارا سياسيا في شأن قضائي لكنه لا يسمح للحكومة ان تمد صلاحيتها الى المسألة القضائية.
من الإجراءات الإدارية الأخرى التي يستدعيها مرسوم الإحالة هي حق وزير العدل ان يقترح على مجلس القضاء الأعلى اسم قاض ليتولى مركز «المحقق العدلي» حتى اذا وافق هذا المجلس على الإسم المقترح يتولى وزير العدل اصدار قرار بتعيينه. وهكذا يكون المجلس العدلي قد اكتمل.
ان اول مواجهة حصلت بين السلطة السياسية والقضاء كانت بمناسبة قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري عندما قرر «احدهم» ازاحة المحقق العدلي الذي كان معينا. ولما كان قانون اصول المحاكمات الجزائية لم ينص على آلية التنحية، فتمت الإستعانة بحل شبيه يخص المحقق العادي مع ان اوجه الشبه بينهما غير متوافرة فقررت محكمة التمييز اعلان صلاحيتها مع انها ليست كذلك ونحت المحقق العدلي.

ثاني مواجهة بين القضاء والسلطة السياسية كانت من خلال جريمة تفجير مرفأ بيروت لما قررت هذه السلطة السياسية ازاحة اول محقق عدلي فتم نسخ ما حصل في قضية الحريري ونحي المحقق العدلي الأول وعين بدلا منه.
لكن الود بين السلطة السياسية والمحقق العدلي الثاني لم يكن موجودا لأن هذه السلطة لم تكن موافقة على معظم ما قام به المحقق العدلي من اجراءات. مثل اصراره على ملاحقة بعض النواب من خلال طلب رفع الحصانة عنهم وهنا انهالت طلبات رده ومخاصمته الأمر الذي ادى الى شل عمله بالمطلق.
غير ان توقف المحقق العدلي عن العمل للأسباب المعلنة اعلاه ادى الى الحاق الضرر المعنوي والجسدي بعدد من الأشخاص كان قد جرى توقيفهم على ذمة التحقيق، لكن وبسبب طلبات الرد لم يكن باستطاعة المحقق العدلي ان ينظر بطلبات اخلاء سبيلهم.
ولهذا السبب فكرت السلطة السياسية بحل يؤدي الى نتيجتين: الأولى قريبة المدى وهي اخلاء سبيل الموقوفين، وبعيدة المدى وهي ازاحة المحقق العدلي المعطل عمله. فاقترح وزير العدل على مجلس القضاء تعيين محقق عدلي «رديف» للنظر بطلبات اخلاء سبيل الموقوفين والدفوع الشكلية. وافق مجلس القضاء على هذا الإقتراح ولم يعين حتى الآن الرديف لأسباب غير معروفة.
جرت معارضة هذا الحل لعدم قانونيته لأن القانون لم ينص على حل مشابه، ولأن طبيعة عمل التحقيق لا تسمح بوجود محققين في نفس الوقت يحققان بقضية واحدة. فجرى اقتراح ان تطبق المادة 125 من اصول المحاكمات المدنية او من خلال تفعيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز لأن المادة 30 من قانون التنظيم القضائي لم تشترط ان يكون رئيس الغرفة في التمييز اصيلا ليكون له الحق في ان يكون مستشارا في الهيئة العامة لمحكمة التمييز.

ولا نبالغ اذا قلنا ان هذه الحقبة من تاريخ لبنان قد اتسمت بأبشع صور تدخل المنظومة السياسية وغير السياسية في الشان القضائي بدأت من موضوع المناقلات القضائية الى اعمال المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، بحيث اخذ هذا التدخل صورا سافرة ونافرة في آن. حتى اصبحت المطالبة برفع اليد عن القضاء مطلبا يوميا وملحا.

* مدعي عام التمييز سابقاً