IMLebanon

سباق الوقت بين الانفجار والتسوية

 

لا تبدو الاوضاع على المستوى الاقليمي هادئة كي يسمح اللبنانيون لأنفسهم بتوسيع هامش اللهو السياسي، أو بتعبير أدق بترف استهلاك الوقت وإضاعته.

ذلك انّ الاحتقان يتصاعد داخل البلدان المجاورة والقريبة من لبنان والتي يملك بعضها تأثيراً فيه، ما قد يدفع السلطات في هذه البلدان الى الذهاب الى تفجير مواجهات خارجية للهروب من أزماتها الداخلية.

 

أولى هذه الازمات تعيشها اسرائيل مع وصول حكومة متطرفة سمحت بإعادة إظهار التناقضات الداخلية بين مختلف الشرائح التي يتألف منها المجتمع اليهودي الاسرائيلي. ومع احتدام الصراع السياسي ووصول المواجهات الى المحاكم، اجتاحت التظاهرات الشوارع في مشهد يؤسّس لمرحلة من عدم الاستقرار الداخلي.

 

أضِف الى ذلك، انّ رئيس الحكومة العائد الى السلطة بعد غياب قسري، يريد لهذه الحكومة ان تبقى كي يتجنّب هو محاكمات بتهمة الفساد، هو المُدرك دروس السنوات الماضية والتي تؤشّر الى صعوبة انتزاع اليمين الاغلبية النيابية مرة جديدة.

 

هذا الواقع المعقّد يُضاف اليه حكومة بعقل متطرّف، يعطي الانطباع بأنّ احتمالات الذهاب الى تصعيد خارجي مسألة واردة والعنوان هو ايران، والتسخين قد يطال الساحة السورية المفتوحة.

 

في المقابل، إنّ ايران المُرهقة جرّاء الازمات الاقتصادية والعقوبات الاميركية لم تنجح بعد في لملمة آثار الاحتجاجات التي شهدتها الشوارع خلال الاشهر الماضية. هي تدرك انّ اولى متطلبات اعادة استيعاب الشارع تنطلق من عنوانين: الأول اقتصادي، والثاني اعادة تجديد ثوب السلطة. وهذا لم يتحقق حتى الساعة، ربما لأن الظروف لم تسمح بعد.

 

صحيح انّ هذه الاحتجاجات ما تزال بعيدة عن إمكانية زعزعة النظام القائم، لكنّ عامل الوقت لا يلعب لصالح تجاهل المشكلات القائمة، خصوصاً انّ الخروقات الاستخباراتية، والتي ظهرت خلال السنوات الاخيرة، تعطي الانطباع بضرورة القيام بنَفضة شاملة لتأمين مستقبل مضمون واستمرار النظام القائم. لذلك وسط الحصار القائم على ايران، قد يكون الحل برفع مستوى التحدي الخارجي لإعادة لم الشمل الداخلي. وأيضاً إن الحزام الذي يحيط بإسرائيل يعاني بدوره أزمات اقتصادية خانقة لا تجد حلولاً واعدة لها الا اذا تغيرت المعادلة.

 

فمصر والاردن على شفا كارثة اقتصادية ومالية، وسوريا تعاني مخاطر اقتصادية حادّة الى درجة الخطورة. ولبنان بدوره يئنّ تحت ثقل الانهيارات المتلاحقة وسط ازمة سياسية وتآكل ما تبقّى من هيكل الدولة، وهو ما يُنذر بفوضى عارمة في حال تأخّرت الحلول.

 

وحدها دول الخليج العربي تملك الثروة الهائلة وبالتالي صندوق الاوكسيجين الذي يحتاجه الجميع. فالازمات توالت على المستوى العالمي مؤخراً. وشكلت تعزيزاً للثروة النفطية الخليجية، لكن «المساعدة» الخليجية لا تبدو يسيرة حتى مع الحلفاء فلم يعد هنالك مساعدة مجانية كما يتردد في الكواليس الخليجية.

 

لذلك آثرت السعودية الغياب عن لقاء القمة الذي عُقِد أخيراً بين دول الخليج ومصر والاردن.

 

الاوساط الديبلومسية المتابعة تراهن على إخراج ما سيحصل، وسيسمح بإنقاذ اقتصاد مصر والاردن. ذلك انّ البديل هو انهيار لا بل انفجار مصر والاردن، وهذا لا يلعب بالطبع لمصلحة استقرار دول الخليج. لا بل اكثر، فإنّ ثمة رهان على دور اقليمي عسكري لمصر والاردن، بدليل التعاون العسكري مع الاميركيين من خلال تعزيز القوة الجوية للبلدين. ذلك انّ تزويد الاردن بطائرات متطورة من طراز F-16 تحت ستار محاربة داعش في سوريا والعراق، إنما هو تبرير لتعزيز حائط الردع والصَد بوجه ايران عبر هاتين الساحتين، خصوصاً بعد التطورات الاخيرة في الضفة الغربية.

 

أضف الى ذلك استفحال الازمة الاقتصادية والمعيشية في سوريا، لكن بالتوازي ظهرت إشارات سياسية بليغة. فإعلان طهران انها باتت تريد تسديد ثمن المحروقات من سوريا مُسبقاً هي اشارة سياسية اكثر منها اقتصادية.

 

وتزامنَ ذلك مع سعي روسيا لتأمين تسوية بين أنقرة ودمشق في وقت تلوّح فيه الامارات بأنها مهتمة بالساحة السورية، وهي ايضا تطورات سياسية تطال النفوذ الايراني في سوريا. ولاحظَ المراقبون وجود تباينات عدة في العلاقة بين طهران ودمشق هي حتماً لن تصل الى الافتراق، لكنها في الوقت نفسه لم تعد علاقة متجانسة بالكامل. ولا بد انّ هذه التباينات انعكست بطريقة او بأخرى على العلاقة مع «حزب الله». ويقال انه في سوريا تنافس حاد بين روسيا وايران على الفوسفات. وبَدا انّ موسكو وضعت يدها بالفعل على هذه الثروة، وهي التي تعاني التبعات الاقتصادية لحرب اوكرانيا. هذا في الوقت الذي تبحث فيه السلطات السورية على مصادر تمويل تساعد الاقتصاد السوري على وقف انحداره. ولا حاجة للقول إنّ هذه المصادر موجودة في الخليج.

 

كل هذه الصورة المعقدة والمتشابكة تُرخي بثقلها على الساحة اللبنانية التي باتت فاقدة للمناعة الذاتية. والاجتماع الخماسي الذي سَعت اليه باريس، يدلّ على حرص فرنسي على إبقاء الملف اللبناني على الطاولة لكنّ حصول الاجتماع افتراضياً وايضاً على مستوى مسؤولي الصف الثالث، يؤشّر فعلياً الى أن لا نتائج مرجوّة، بل ان الهدف اعادة استعراض الملف اللبناني والنقاط التي تحققت. الواضح أنّ الظروف الاقليمية لم تنضج بعد لكي يجري العمل على تحقيق الخرق المطلوب في لبنان.

 

وفي الكواليس كلام عن قرب إرسال باريس للمكلّف بمتابعة الملف اللبناني مع المسؤولين السعوديين الى الرياض بهدف أخذ التزامات سعودية حول المساعدات الاقتصادية للبنان بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي. وهو ما يعني أنّ للسعودية شروطها الرئاسية، والتي ستلتزم بها باريس. وعلى رأس هذه المواصفات حيادية الرئيس وعدم انتمائه الى اي محور اقليمي وان يكون نزيهاً هو والمجموعة المحيطة به، وان يكون سلوكه يشهد على انه صاحب قرار وليس شخصية اعتادت على الخضوع والسلوك التنفيذي. الاوساط الديبلوماسية أبدَت قلقها حيال إشارات الاحتقان التي ظهرت خلال الاسبوع الماضي خصوصاً لدى الساحة المسيحية القلقة والمتوجّسة من وجود مخططات لإفراغ مواقعها داخل الدولة، وبالتالي إضعاف حضورها.

 

أضف الى ذلك الواقع المعيشي الصعب والاحتقان السياسي، وهو ما يشكّل بيئة نموذجية لسقوط البعض في فخ التنظيمات الارهابية.

 

كما انّ هذه الاوساط تُبدي قلقها من بعض المؤشرات غير المطمئنة على مستوى النازحين السوريين في بعض المخميات.

 

كل هذه المؤشرات ترفع مستوى الحذر من تفاقم حال الفوضى واحتمال انزلاقها بسرعة باتجاه الدم. وهو ما يعني أنّ عامل الوقت لا يلعب بالتأكيد لصالح الاستقرار بل على العكس، ما يعني انّ لبنان لا يحتمل ترف الانتظار.

 

وخلال المرحلة الماضية أبلغ «حزب الله» سليمان فرنجية بأنه مع إقفال اللعبة الداخلية، فإنّ الحركة يجب ان تكون باتجاه السعودية وفِعل ما يجب لتحقيق الخرق الاقليمي وهو ما سيساعد على اعادة فتح اللعبة الداخلية.

 

وثمّة تفسير ثانٍ وهو إقرار الجميع، بما فيهم «حزب الله»، بأنّ سبل إنقاذ لبنان اقتصادياً لا بد ان يمر عبر السعودية.

 

لكن المسؤولين السعوديين اكتفوا بالتعبير بأنّ الرياض لا تضع فيتو على احد، لكنها في الوقت عينه لن تدعم أحد: «رَتّبوا أموركم ونحن نتعاطى وفق النتائج التي ستظهر».

 

وهذا الجواب اعتبره البعض خرقاً، فيما فسّره البعض الآخر بأنه غموض يُشتم منه غسل اليدين.

 

وجاءت مبادرة وليد جنبلاط، والتي تضمنت اسماء، لتفتح باب تفسيرات جديدة. فجنبلاط على تواصل دائم مع السعودية، وهو في الوقت نفسه قلِق من حال الجمود الداخلي وصعوبة الاستمرار في هدر الوقت مع تضاؤل ما تبقى من المناعة اللبنانية الذاتية. وكان لافتاً تضمين اسم قائد الجيش بين مَن اقترحهم، رغم انه جاهَر غير مرة بحساسيته المفرطة تجاه تجربة العسكر في الحكم.

 

لا شك انّ ثمة مستجدات دفعته لتقديم اقتراحه هذا.

 

في المحصّلة، إنّ الاحتقان اللبناني بالتوازي مع الاحتقان الاقليمي يَسدّان كل مسارب الحلول، فإنّ ما يمكن استشرافه هو أنّ عامل الوقت سيأخذ الامور سريعاً إمّا باتجاه التفجير والدمار لكامل وهو ما يَتعارض مع مصالح القوى الكبرى في المنطقة لا سيما روسيا، أو الى صدمة قاسية تفتح باب التسويات، وهو الارجح. لكن السؤال يبقى دائماً عن الموعد.