IMLebanon

الإرث والوارثون

 

 

بعد نقاشٍ طويلٍ مع أصدقاء، قرّرنا أن سعد الحريري هو الموازي لشخصيّة «كيندال روي» في المسلسل الأميركي الشهير «خلافة» (Succession) – فيما بهاء هو «كونور»، الأخ الأكبر لكيندال. المسلسل هو من بنات أفكار المنتج البريطاني جيسي أرمسترونغ، وهو يدور حول عائلة أميركيّة ثريّة، عائلة «روي»، وهي ذات مالٍ ونفوذ عظيمين، تمتلك شركات إعلامية مؤثرة تشبه «فوكس نيوز» ومصالح كثيرة وعلاقاتٍ وثيقة بساكن البيت الأبيض، والبرنامج هو من أفضل ما شاهدت على التلفزيون في السنوات الأخيرة. يُقال أن العائلة هنا هي مزيجٌ روائيّ بين عائلات ترامب وميردوخ وميرسر، فيما «كيندال روي» (الذي قرّرنا أنه سعد الحريري) هو الابن الذي يحاول باستمرار أن يملأ مكان أبيه المؤسّس، وأن يثبت نفسه وكيانه متحرّراً من عباءة والده الثقيلة (ويفشل في ذلك باستمرار). أمّا «كونور»، فهو الأخ البليد في العائلة الذي يخلو تماماً من الموهبة ولا يتمّ تسليمه أي مسؤوليات (إن كنتم تعتقدون أنّ سعد الحريري لديه مشكلة في الكفاءة والتكتيك، فعليكم أن تتعرّفوا إلى بهاء). يخوض كيندال صراعاً مستمرّاً مع نفسه ومع الآخرين، ويتحوّل من ولدٍ مطيع يصبو إلى الوراثة إلى متمرّدٍ ينوي استبدال والده، إلى درجة أن يخوض ضدّه صراعاً علنيّاً على قيادة الشركة وإدارتها، وتصبح الخلافة حرباً بين الابن والوالد.

 

«ثورات» كيندال هذه تشبه، بمعنى ما، ما فعله سعد الحريري في وجه «الوالد» السعودي في الأشهر الأخيرة. مقاطعة سعد للانتخابات كان لها أكثر من بعدٍ وحساب، ولكنها كانت في جانبٍ منها «انتقاماً»، انتقام سعد الحريري، أخيراً، ممّن قمعه وعامله بعسفٍ وفوقية، ودبّر ضدّه انقلابات في السنوات الماضية، بل وخطفه وأهانه: «انتقامي هو أن أفسد عليكم الانتخابات». المسألة هي أنّه، في المسلسل الأميركي أقلّه، كلّما خاض كيندال روي «انتفاضةً» من هذا النّمط، تكون النتائج والتبعات سيئة جدّاً بالنسبة إليه.

 

المحرّك الأساسي لسردية المسلسل أعلاه هي فكرة خلدونيّة عن تعاقب الأجيال وانتقال السّلطة وتجديدها: الجيل «المؤسس» سيختلف دوماً عن الجيل الثاني، الذي ولد وحوله السلطة والثروة، فكيف تضمن أن يحافظ عليها؟ الوالد البطريرك في المسلسل، لوغان روي، هو ابن مهاجرين صنع إمبراطوريته الماليّة بنفسه، ويحمل ما يشبه الحقد على أبنائه وباقي الذين ولدوا وسط المال والحظوة. هو اضطرّ لأن يعمل طويلاً ويكدّ، ويخاطر ويكذب ويرتكب أموراً قبيحة لكي يبني ما بناه، وهم يستلموا الأرض مجّاناً، من غير تعبٍ أو لطخةٍ من عار. لوغان لا يثق إلّا بأناسٍ مثله، جاءوا من أصول فقيرة وصعدوا السّلّم بالطريقة الصعبة. هل سيتمكّن ولدٌ مدلّل مثل كيندال من إدارة إرثه في هذا العالم العنيف؟ هو ليس «قاتلاً» مثل والده، هل سيعرف متى يجب توجيه الطّعنة حين يلزم؟ وهل سيقدر على غرز السكّين؟

يوجد فقهٌ كامل في مختلف المجتمعات البشريّة حول موضوع الاستخلاف وتجديد السلطة والمؤسسات، وبناء قيادةٍ جديدة في كلّ جيل. في لبنان، مثلاً، كما في الكثير من بلادنا، صورةُ يحملها الريفيّون عن أهل المدن، تقول أنهم، وبخاصةٍ الأثرياء منهم والتّجار، بخلاء إجمالاً ولا يُعلون من قيم الكرم والضيافة والارتقاء فوق المادّة. هذا قد يكون صحيحاً ظاهريّاً، ولكنّه ليس مسألة سلوكٍ شخصيّ أو نقيصة أخلاقيّة، بل هو جزءٌ من «دفتر تعليمات» عقلانيّ طوّرته الفئات التجارية – عبر التّجربة والتعلّم – وتوارثته عبر الأجيال (لست أحاول هنا نفي الموضوع بل شرحه، لقد قضيت سنوات نشأتي وأنا أدفع ثمن سندويشات لرفاقٍ وأصحاب اكتشفت فيما بعد أنّ أهلهم من كبار الأثرياء، وأنا أهلي موظّفون).

 

سأشرح: الفكرة هي أنّ الكثير من أهل المدن الميسورين هم، من ناحية، أصحاب مصالحٍ ومهن صمدت لأجيالٍ متلاحقة، ويجب أن تنتقل بدورها إلى الأولاد. من جهةٍ أخرى، فإنّ المحنة الدائمة لهذا الميسور هي في كونه أعزلاً، لا يقدر (كالبدوي مثلاً) على حماية نفسه وممتلكاته؛ وهو أيضاً الهدف الأوّل لجابي الضرائب واللصّ والغازي الذي يبحث عن غنيمة. فهذا الانسان يعيش إذاً في خوفٍ دائم من السلطان، وضرائب السلطان، وجنود السّلطان، والغازي المسلّح، قبل أن نصل حتى إلى السّوق ومخاطره. هذه العوامل كلّها أنتجت، بخاصّة لدى الفئات التجاريّة التقليدية، ما يشبه «ثقافة بروتستانتية» وعادات غايتها حماية الثروة ومنع تبديدها واندثارها والتعامل معها بطيش: أن تقتصد دوماً في مصروفك لحساب الادخار والاستثمار، أن لا تُظهر ثروتك عبر الاستهلاك الفاحش، لا يجب أن يعرف أحد حجم رصيدك أو مدخولك، علّم أبناءك «المصلحة» منذ صغرهم، إلخ. بالمقابل، طالما أننا نتعامل هنا مع الصّور النمطية، فإن من يسخر من «بخل» هؤلاء هو غالباً من، ما أن تصيبه نعمةُ، حتى يغيّر منزله وسيارته ونمط حياته وثيابه وشخصيّته، ويشرح لك – بكلّ تصرّفٍ ومظهر – أنّه يملك مالاً وأنّه ينفقه، وهذا هو نمط الثروات الذي لا يدوم عادةً لأكثر من جيل.

 

الإرث الصّعب

في التاريخ السياسي عندنا، بشير الجميّل هو نموذجٌ فريد عن مفهوم الوراثة والخلافة. أعتقد أنّ جيلي يقارب الحرب الأهليّة وشخصياتها بشكلٍ يختلف عن من سبقنا، أي من عاصر الحرب وشارك فيها ودخل (ولو معنويّاً) في خنادقها. هذه العداوات كثيراً ما تصبح شخصيّة وتحفر في الانسان ولا يتحرّر منها أبداً: أعرف بعثيين وشيوعيين لا زالوا يعيشون أحداث 1963 كأنّها حصلت البارحة، ولن أخبركم عن سلالات ياسر عرفات في لبنان (أسوأ ما يمكن أن يحصل لك هو ليس أن تسجن نفسك، فحسب، في حقدٍ تحمله من ماضٍ فات، بل أن تورّثه أو ترثه أيضاً). هؤلاء الناس هم من يصيغ، إلى اليوم، الخطاب عن الحرب الأهليّة ومرحلتها؛ بعضهم يتبرّأ و«يراجع» و«ينقد نفسه»، وبعضهم لا زال يخوض الحرب. غير أنّ تلك الأيّام السوداء التي مرّ عليها ما يقارب النصف قرن ليست مجال أحقاد شخصية ومبارزة، بل هي – بالنسبة لنا على الأقل – أصبحت مجرّد تاريخٍ. وحين أقرأ ذلك التاريخ، فإنّ ما يزعجني في سيرة بشير الجميّل هي ليست الاتهامات التي تطلق عليه عادةً من معسكر «الحركة الوطنية»، بل فكرة أنّ آلاف الشباب قد ساروا خلفه، وقاتلوا وقُتلوا، وهم يتوهّمون أنهم يدافعون عن قضيّةٍ وكيانٍ و«وجود»، في حين أنهم كانوا يسيرون خلف قائدٍ يستحيل أن يوصلهم إلى غير الهزيمة.

 

«السياسة الوطنية» والانتخابات العامّة، وسياسة العاصمة والمركز، قد لا تكون الميدان الأساسي لتوليد الأفكار والسياسة

 

 

أنا هنا لا أتكلّم عن بشير عبر عيون أعدائه، بل أعتمد على ذكريات محبّيه ومريديه. خذوا كتاب جورج فريحة عن تجربته مع بشير، وفريحة رافق الجميّل منذ بدايات دخوله إلى السياسة، وهو قريبه وصهره، وكان الأكاديمي الذي أصبح بمثابة مستشارٍ له، وهو يتكلّم عن بشير بحبٍّ وإعجاب ويعتبر أيّامه معه أهمّ مرحلةٍ في حياته. رغم ذلك، فإنّ قراءة فريحة تجعلك تفهم على الفور أن بشير الجميّل كان، ببساطة، إنساناً غير متّزن في شخصيته مشاكل عميقة. وتفهم أيضاً أنّ والده حاول إعاقة صعوده السريع داخل الحزب، في البداية، ووضع حدودٍ لسلطته لا لأسبابٍ شخصيّة أو تراتبيّة وتنظيمية، بل لأنّه أكثر من يعرف ابنه، وكان واعياً بوضوح لأنّ بشير لا يصلح لأن يكون في موقع مسؤوليّة وقيادة. الأمثلة هنا كثيرة. نحن نتكلّم عن رجل، حين ترفض له الجامعة الأميركية طلباً بفتح فرعٍ لها في «المنطقة الشرقية» (ضمن مخططٍ تقسيمي كان بشير يتابعه)، يأمر بقصف حرم الجامعة الأميركية. أو يستدعي رئيس الجامعة اللبنانية، بطرس ديب، لكي يوقّع على مرسومٍ بفتح فروعٍ ثانية للجامعة الوطنية (وهو ما كان يعارضه ديب بشدّة ومعه أغلب الإدارة)؛ يروي فريحة أنّ ديب، ما أن جلس مقابل بشير، لم يناقش. بل طلب المرسوم الذي يريده أن يوقّع عليه لكي ينهي الموضوع، لأنّه كبيرٌ في السنّ ومريض ولا يؤاتيه الخطف والنّقل في صندوق سيّارة. هكذا كانت سمعة بشير الجميّل بين الناس وصورته قبل أن يتحوّل إلى أسطورة، وفريحة يرويها كأنها نكتة لطيفة. يضيف فريحة أن بشير كان لا يعرف أن يدير مؤسسة، وقد أهدر مبالغ هائلة على مشاريع يتبنّاها وينفق عليها، ثمّ يملّ منها ويقطع عنها التمويل لينتقل إلى أخرى؛ بل كان – أيضاً بحسب فريحة – لا يعرف أن يدير اجتماعاً حزبياً بسيطاً أو أن يرسم جدول أعمال (يقول فريحة إنه أعطى بشير كتاباً عن كيفية إدارة الاجتماعات، فضحك بشير ولم يقرأه، فهو كان لا يحبّ القراءة). لولا الحرب، وصعود الشعبوية والسلاح، لكان من المستحيل على بشير الجميل أن ينجح في ردهات السياسة اللبنانية التقليدية وأن يرث هو القيادة.

 

من هنا، لم يأخذ الأميركيون بشير الجميّل على محمل الجدّ، ولم يعتبروه حليفاً يمكن الاعتماد عليه، رغم اتصالاته المتكرّرة بهم. وهو، حين زار واشنطن قبل الاجتياح، لم يحصل سوى على اجتماعاتٍ مع الرتب الدنيا في الإدارة الأميركية. الوحيد الذي وجد في بشير الجميّل «فرصة» وقرّر الاستثمار فيه والرهان عليه كان أرييل شارون، وهنا كانت بداية الكارثة. ولكن السؤال يبقى: إلى أين كان يمكن أن يصل مشروع بقيادةٍ طائشةٍ كهذه في كلّ الأحوال؟ كان محتّماً أن يسبّب الأذى والضرر لكلّ من حوله، وبشكلٍ خاص لمن سار خلفه. الذين قاتلوا مع بشير لم يكونوا أبناء العائلات «الحاكمة» والمترفة، الذين كانوا يعيشون شبابهم بصخب فيما الحرب تدور، بل أبناء الأحياء الفقيرة في المدن، كرم الزيتون وعين الرمانة والدكوانة والدورة، وأبناء الريف وقرى الأطراف. هؤلاء سقطوا بالآلاف خلف بشير وهم يعتقدون أنّه قائدٌ ملهم سيأخذهم إلى مكانٍ أفضل، وهنا جانبٌ آخر من جوانب المأساة. بالمقابل، هؤلاء الناس الريفيون كانوا هم من «ورث» بشير، وقد صعدوا في بنية «القوات اللبنانية» وأصبحوا قياداتها، ومن بينهم خرج سمير جعجع. المشكلة التاريخية هنا هي أنّ جعجع هو أقلّ عقلانيّة حتّى من بشير (فلنتخيّل أن المشروع السعودي، الذي يستثمر في جعجع ويراهن عليه اليوم، قد وصل في السنوات العشر الماضية إلى النصر والهيمنة في سوريا ولبنان والعراق، وأمسكت ميليشياتهم بهذه الدول، وهذا كان احتمالاً جدّيّاً وقائماً؛ ماذا كان سيحصل – تحديداً – لمؤيدي جعجع ومن يزعم الدفاع عنهم؟ أيظنّ أنّه كان سيعقد اتفاقاً جانبياً مع «جيش الفتح»؟).

 

 

إعادة انتاج السياسة

الشروط نفسها تنطبق على الحركات السياسية والاجتماعية، تماماً كما في العائلات والسلالات: هل تتمكّن، بعد «الجيل المؤسس»، من وضع آلياتٍ لتجديد الحركة وإعادة انتاجها باستمرار؟ وتحضير نخبٍ وكوادر تقدر أن ترث القيادة؟ أم تدخل في دورة الانحدار الخلدونية؟ أنماط الورثة ومخاطرها ستكون دوماً موجودة: الوارث الطائش الذي لا تناسبه القيادة، الوارث الذي يضيّع ملك أبيه، ذاك الذي يريد «قتل أبيه»، والورثة الذين يتناهشون على الإرث بدلاً من أن يجدّدوه.

وفي هذا الإطار، بدأت أقتنع بأنّ «السياسة الوطنية» والانتخابات العامّة، وسياسة العاصمة والمركز بشكلٍ عام، قد لا تكون الميدان الأساسي لتوليد الأفكار والسياسة. سوف أبدأ من البداية: يشتكي حسن الخلف من عقم السياسة بمعناها «الرسمي» في بلادٍ تابعة مثل العراق ولبنان. أنت أصلاً في مرحلة تاريخية لا تمتلك فيها، مثلاً، خطّة اقتصادية بديلة وواضحة تستبدل النهج الليبرالي السائد في السوق المعولم، حتى وإن وصلت – بشكلٍ ما – إلى الحكم. هذه دولٌ برلمانيّة تحاصصيّة مُخترقة، لا تسمح أصلاً بوجود أغلبية سياسية متّسقة تقود مشروعاً تحديثياً؛ وستظلّ السياسة اليوميّة عبارةً عن حروب شائعات واتهامات مبهمة بالفساد، في نقاشٍ «برلماني» هو بطبيعته لا ينتهي ولا يُحسم. فوق ذلك، إن كنت معادياً لأميركا و‘سرائيل، فسوف تشنّ السفارات عليك حرباً أهليّة مستمرّة، ويتجنّد «المجتمع المدني» ضدّك، وإن تمكّنوا من الغشّ فسيفعلون (هذه بالنسبة إليهم هي حربٌ وليست سياسة، ولا تعني التقاليد البرلمانية عندهم شيئاً). حتّى المالكي، يقول الخلف، حين تمكّن من الامساك بالحكم، ووقّع اتفاقية شاملة للبنى التحتية مع الصين (والقانون فيه مشاكل بالطبع، ولكنه كان على الأقل سيضمن بناء خدماتٍ أساسية في الطاقة والنقل والصناعة، شيءٌ ملموس لمرّة) قاموا بعدها بقليل بإسقاطه عبر انتفاضة مسلّحة – فماذا تتوقّع في المستقبل؟

 

إن كان هناك من درسٍ للانتخابات اللبنانية فهو، مجدّداً، عن تفاهة هذا النمط من السياسة وليس عن أولويّته

 

 

كان ماو يعتبر أنّ ألمع النّاس وأكثرهم اعداداً وطموحاً سوف يتّجه دوماً صوب المركز والعاصمة، ومؤسساتها وثقافتها وإعلامها، وميدان السياسة «المركزي» فيها، فيما تكون السياسة في الأطراف هي بمثابة «صفّ ثاني»، هي وكوادرها. أراد ماو قلب هذه المعادلة، ولهذا السّبب لا زال الحزب الشيوعي الصيني، إلى اليوم، يحمل تراثاً يقوم على «تدوير» الكوادر في الأطراف والمقاطعات، ويكون هذا هو الاختبار الأساسي الذي يتمّ على أساسه تقييمهم وانتخاب الكوادر العليا من بينهم. هذا، على الهامش، كان له دورٌ أساسي في عملية التنمية بالصّين، فالتخطيط والمشاريع الاقتصادية في الصين تجري أساساً على مستوى المقاطعة والحكومة المحليّة وليس على المستوى الوطني. أصبح لديك عشرات الآلاف من الكوادر، كلٌّ أرسل إلى ناحية ومعه مهمّة وأهداف عليه تحقيقها خلال فترة ولايته (رفع النموّ بدرجة كذا، حلّ مشاكل قطاعية معينة، إلغاء الفقر المدقع، إلخ)، وهم يتنافسون على اثبات نفسهم في المكان الذي فُرزوا إليه (كقاعدة، لا يتمّ إرسالك إلى مسقط رأسك). لهذا السّبب، لن تجد مسؤولاً صينياً كبيراً، بدءاً من شي جينبينغ، إلّا وله معرفة حميمة بأقاليم قصيّة وزراعية في الصّين، ويعرف نمط انتاجها ومشاكلها وحياة سكانها.

 

رأيي أن أساس هذه الفكرة، مع بعض التعديل، قد ينفع في سياقنا الحالي. السياسة المحليّة هي المجال الوحيد الذي لا يزال مفتوحاً، نسبياً، للعمل الحرّ المباشر. المستوى المحلّي هو حيث يمكنك أن تخطّط لمشروعٍ (سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو تنموياً) وتنفّذه حقّاً وتتعلّم منه. هو المكان حيث العلاقة مباشرة مع النّاس، وليست عبر تلفزيون أو شاشة هاتف (كان روسو يعتبر أنه، ما أن يصبح السياسي والنائب إنساناً لا تعرفه شخصياً ومباشرة وبالتجربة، بل عبر واسطة وإعلام، تنتفي مباشرةً «الديموقراطية» بمعناها الأصلي). بعض المفاهيم الموروثة عن «الدولة» و«البرلمان» و«المجال العام» قد تتحوّل بسهولةٍ إلى أوهامٍ عقيمةٍ تسجنك. ألا تثبت الانتخابات في كلّ مرةٍ الفارق بين شعارات السياسة على التلفزيون وبين الواقع المادي، والفارق بين عالم السوشيال ميديا والعالم الحقيقي؟ إن كنت تريد أن تزرع نفسك بين النّاس فعليك أن تأتي إليهم، وتعمل معهم بشكلٍ مباشر، يكون ألمع من لديك هو من يدير العلاقة معهم ويلتفت إلى أحوالهم ويكتسب ثقتهم. هذا النّوع من الثقة «بالتجربة» هو الذي يدوم ولا يمكن أن تنتزعه منك بروباغاندا أو مؤامرات. في ألاعيب السياسة والسفارات، قد تنتهي دائماً كالطرف الأضعف أو تدور عليك المؤامرات ولكن، على المستوى «المحلّي»، من الصّعب أن يغشّوك، أو ينتزعوا ما هو لك، فالمجتمع والنّاس هم الخطّ الأخير الذي لم يتمّ اختراقه بعد.

في وسعك أن تنتظر «دولة وطنية» غير موجودة بعد لكي تفكّر عنك وتقودك، ولكن في وسعك أيضاً – في انتظار ذلك – أن تنتشر في الأرياف وبين المهمّشين، سواء في لبنان أو العراق أو أي بلدٍ آخر، وتثبّت نفسك بين النّاس وتبحث معهم عن حلولٍ لمشاكلهم. من هنا ستخرج السياسة الحقيقية وعبرها سوف تكتشف جيلاً جديداً يستحقّ القيادة. قبل كلّ شيء، فإنّ انتاج «خطّةٍ» لمشاكل الاقتصاد والتنمية والمجتمع يجب أن يأتي عبر تراكم تجارب واختباراتٍ وتماسٍ فعليّ مع الواقع، لا من مخطّطٍ مركزيّ، «خبير»، يأتيك من فوق ليعطيك – سلفاً – خريطة طريق متكاملة لواقعٍ لا يفهمه.

 

خاتمة

لم أصوّت في الانتخابات الماضية، كالعادة، وهذا ليس لأسبابٍ أناركية أو ما شابه – معاذ الله – بل للسبب القديم نفسه: أنّه، وفق القواعد الانتخابية الحالية، فإنّ صوتي لا يوازي صوت غيري، وهذه معادلة لست مستعدّاً لقبولها (لست أمحّص في مسائل تقنية وهوامش صغيرة، صوتي يوازي ربع قيمة الصوت في دائرة بيروت الأولى، مثلاً، ونصف قيمة الصوت في دوائر أخرى كثيرة؛ أي أن صوت الفرد هناك بعائلةٍ هنا والعكس). أفهم أن القانون قد أقرّ والانتخابات ستجري، معي أو بدوني، ولا أحد سيحصل في قانون انتخاب على كلّ ما يريد، ولكنّي أزعم بأنّ لديّ هنا حجّةٌ جيّدة لكي أطالب بأن نوقف كلّ شيء، ولا نقبل بانتخاباتٍ جديدة لا تتسق مع المبدأ البديهي: ناخب واحد/صوت واحد. المثير، كما في كلّ دورةٍ انتخابيّة، هو أن لا أحد تهمّه هذه المسألة، بمن في ذلك «التغييريين»، بل والأكثرية تتعامل بانتهازيّةٍ مع حالة العزل الانتخابي الطائفي، ونحن لم نتكلّم بعد عن انتخابات بدائرة واحدة أو خارج القيد الطائفي (لم أفهم، بالمناسبة، ما هو الفارق بين «ثائر» و«تغييري»؟ وكيف تنتقل من فئة إلى الثانية؟ وتغيير نحو ماذا بالضبط؟ الشيء الوحيد المشترك بينهم حتى الآن هو مارسيل غانم).

إن كان هناك من درسٍ للانتخابات اللبنانية فهو، مجدّداً، عن تفاهة هذا النمط من السياسة وليس عن أولويّته. الانتخابات هي مجالٌ مفيد لسلالاتٍ تستخدمها كمعيارٍ للاستمرارية والتوريث، بعضها ينجح والبعض لا. هي أيضاً منصّةٌ لنخبٍ تريد أن تظهر في المجال العام، ويصبح لها حضور وعلاقات. و«حقيقة» الانتخابات على الأرض لا علاقة لها بما نسمعه على التلفزيون («الحقيقة» هنا هي في كمية المال الذي صرف ليأتي لكم بهؤلاء النوّاب، وأنّ أغلب الناخبين، في دوائر عديدة، لم يضع صوتاً في الصندوق إلا بمقابل).

 

خارج هذه الهوامش، الانتخابات لا تعني أكثر من أن تمنع عن الحكم والمؤسسات الرسمية أمثال سمير جعجع – وقد كان مفيداً أن نستشعر، لساعاتٍ، معنى أن يصلوا إلى موقع قرار. ولكنّ ممارسة «السياسة» والاستراتيجية الاجتماعية لا يكون حصراً عبر البرلمان والقنوات الرسمية، والبديل هنا هو ليس «المظاهرة المستمرّة» في وسط المدينة، ولا أن تجلس بلا فعلٍ في انتظار الحرب أو جعجع. المشهد الأساس في الانتخابات لم يكن في عدد الأصوات وجداولها وأعداد المقاعد، بل كان في مئات الآلاف الذين حضروا شخصياً، في مختلف المناطق، ليقولوا أمراً ما (ومن يخاف على سلاح المقاومة، أو منه، قد سمعهم جيّداً). لا يوجد مشهدٌ يشبه ذلك في لبنان. ما صنع هذه الجموع، والمعنى الذي يهمّ هنا ويجب أن نحفظه وأن يستمرّ، هو أنّ هؤلاء الناس لم يحضروا من أجل مهرجانٍ انتخابي ولائحةٍ ومرشّحين، بل لأجل شيءٍ أكبر من ذلك بكثير.