IMLebanon

إغتيال الحضارات بدل النقاش الحضاريّ

 

لم تكن الانقسامات السياسية اللبنانية يوماً محصورةً في المنافسات باطار اللعبة السياسية العادية وفي التحالفات الانتخابية وفي الحصص في الحكومات والحكم، فقد اختزنت بطياتها صراعات اعمق بكثير، واساسها فكران ممثّلان لحضارتين متقابلتين ومتصارعتين الى حد المعركة الوجودية، وطرفها الاول «الممانعة» امّا الثاني فـ»اللبناني». حالياً يتبوأ صدارة الطرفين من جهة الممانعة، «حزب الله «ومن جهة اللبنانيين ( السياديين) «القوات اللبنانية».

 

خطورة الانقسام الجذري بين الطرفين المتناقضين تتخطّى الاهتزازات الناتجة عن الازمات السياسية الصادرة عنه وتداعياتها على الملفات المعيشية وصعوبة تبريدها ببعض الاوقات، بسبب استعداد فريق الممانعة للجوء بشكل دائم الى المنهجية الالغائية للتهرّب من الدخول في عملية نقاش حقيقي مع الفكر الآخر، لانه يعتبر ان لحظة قبوله بالبدء بنقاش جدّي وعميق كهذا فهو فعلياً يُسلّم بحقيقة التخلّي عن مشروعه، فـ»حزب الله» على يقين ان الحوارات الوطنية تنتهي حتماً باعتماد «الحياد» في الوقت الذي يندرج مشروعه في خطوات الغاء الحضارات التي سبقته لتكريس ثورته، فلا نصف طريق لديه في الحوارات، فإمّا شريعته وقناعاته وإمّا تتوقّف ثورته، وتسقط.

 

في كل مرّة استطاع محور الممانعة، بفريق من افرقائه، وضع اليد على الحكم اللبناني، ذهب فوراً الى استخدام كافة الاساليب القانونية المُقنّعة وغير القانونية والوحشية لالغاء الفكر الآخر المناهض له، ولم يسع للاعتراف به ولا لاجراء النقاشات معه، للوصول الى التفاهم الوطني والشراكة الحقيقية، وجلّ ما اقدم عليه خداعاً وكذباً اعتماده مناورات ومقاربات مشبوهة استهدفت بعض الشخصيات المتخاذلة بهدف تذويبها في منهجيته وذهنيته المبنية على الديماغوجية تسهيلاً لاستمرارية خططه الخبيثة.

 

وان كانت الحضارة هي فعل حضور، فان اللبنانيين قد حضروا منذ نشأة لبنان بكامل فئاتهم من خلال النقاشات والتفاعل بين بعضهم البعض ولم تؤدّ تبايناتهم الثقافية والعقائدية الى محاولات الغاء الآخر واغتيال الثقافات، الا عند دخول اطراف محور الممانعة على الساحة الداخلية اللبنانية دعماً لطرف ضد آخر، ويشهد لبنان حالياً صفحة من هذه الصفحات السود من تاريخه مع اكتمال تحضيرات «حز ب الله» لترجمة ثورته فرضاً على اللبنانيين، مُدعماً ذلك بنظرة الازدراء للانجازات اللبنانية السابقة ومُصنّفاً اسسها الثقافية كأعمال هرطقة وتفلّت. ان التصريحات العديدة لنواب ومسؤولي «حز ب الله» في الفترة الاخيرة والتي كشفت نظرتهم الخاصة للتاريخ اللبناني تدل بما لا يحمل الشك على أنهم لا يعترفون بذلك اللبنان، ولا يُعيرون اهتماماً لانجازات اللبنانيين في كافة القطاعات من ثقافات وفنون واقتصاد وسياحة وعلوم منذ نشأة وطنهم وحتى ما قبل ذلك. في زمن النقاش عُرف لبنان بأنه وطن الرسالة والانفتاح بين الحضارات، امّا حالياً وفي زمن سيطرة الممانعة فنشهد محاولات اغتيال للحضارات ليحل مكانها حضور متخلّف.

 

لبنان ما قبل نشوئه لم يكن كلبنان بعد ضم اقضية جديدة له وعقد تفاهمات وطنية بين مكوناته، ومع اعلان استقلاله استوعبت حضارته كامل الفئات المؤلّفة للوطن حيث اصبحوا مواطنين لبنانيين متساوين في الحقوق والواجبات. واوروبا العلمانية ما قبل استقبالها مواطنين غير اوروبيين ومهاجرين من ثقافات اخرى كانت غير اوروبا الحالية، فقد عملت على اجراء الدراسات والنقاشات لدمج المجموعات المستجدّة بالطرق الانسانية في الحياة الاوروبية فأصبحوا مواطنين يتمتعون بكامل حقوقهم وواجباتهم. حتى القارتان البعيدتان نسبياً، اميركا واستراليا فبعد قدوم اعداد كبيرة من ثقافات غريبة عنهما، لم تبقيا كما كانتا سابقاً. كل هذه الحالات الناجحة عالمياً في مسار تفاعل الحضارات لم ينتج عنها تهديد لأي حضارة، وان كنّا لا نستطيع ان نغفل تأثير الغالبية على طبيعة الحياة ولكن تبقى القوانين والدساتير الضمانة الحقيقية للعلاقات بين المجتمعات المتعدّدة وبينها وبين الدولة، وهذا ما يثبّت ان هذه الدول استطاعت ان تفتح نقاشاً بين الحضارات، بدل محاولة صهرها لتذويبها والغائها. ان هذه الامثال بعيدة كل البعد عن هدفية «حزب الله» الذي يعتبر ان اللبنانيين عاشوا قبل حضوره العسكري تحت تأثير الثقافات الغربية، ولذلك فهو يجتهد حالياً للاجهاز على تينك الثقافة والحضارة لاقامة ثقافة اخرى مكانها نابعة من عقيدته ومرجعيته الفقهية التي يؤمن بعدالتها. وان مشروعه الذي بدأ منذ 40 سنة تحت عباءة التعاون مع الآخرين وحمل القضايا العربية قد استطاع من خلاله تطويع الكثير من الفئات الاخرى لصالحه، ولو لم يحترم هذا التكتيك لكان قد انتهى مشروعه ودفن في مهده. امّا في المرحلة الاخيرة فقد انتقل الى تركيز حضارته المبنية على الصواريخ والمسيّرات والعنف. واذا كانت حضارات الشعوب تُعرف بما تتميّز به من انجازات فقد اقتصرت حضارته على المفاهيم الحربية ولم نرَ لمحوره اي انجاز علمي او ثقافي او استثماري، امتداداً من ايران وحتى لبنان مروراً بالعراق وسوريا واليمن، وان كان الملف النووي الايراني هو فخر الجمهورية الاسلامية و»الحرس الثوري»، فلهذا الملف اسباب وجود لا تعكس ازدهاراً علمياً بل ترجمةً لتوازنات اقليمية تخدم صراع الحضارات وليس النقاش بين الحضارات وعيشها بسلام سوياً.

 

المعركة الرئاسية القادمة حاسمة في تقرير مصير لبنان واللبنانيين، فإمّا ينجح «حزب الله» بإخضاع وخداع بعض التكتلات السياسية فيمضي حينها بمخططاته لتحويل لبنان من مهد الحضارات ومطبخها الى ارض الثورات التي لا تنتهي بل تُنهي، وإمّا ينجح اللبنانيون بتنوّع فئاتهم ومشاربهم بتحرير لبنان من براثنه وايصال رئيس جمهورية انقاذي حضاريّ ينتمي للحضارة اللبنانية ويملك حكمة النقاشات وصلابة الموقف وقدرة القيادة، وعندها يتوقّف مشروع اغتيال لبنان الحضاريّ.