IMLebanon

“القوات والرئاسة” من بشير إلى سمير (3 من 3)

 

 

إنقلاب الأدوار ولعبة الأقدار مع عون

 

لم يقبل سمير جعجع السير في عملية تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس الياس الهراوي رئيساً للجمهورية. كانت هناك محاولة مكشوفة للتضييق على «القوات» وفشلت العلاقة المحدودة مع الرئيس الجديد في الحدّ منها. قناة التواصل بقيت مفتوحة حتى الإنتهاء من تمرّد العماد ميشال عون في بعبدا. بعد ذلك بدأت سلطة الوصاية السورية الجديدة تحجيم «القوات».

 

كان المطلوب من جعجع و”القوات” أن يكونوا من ضمن الفريق الذي يقبل بما يُعطى له ولا يناقش. المواجهة الأولى حصلت في 6 أيار 1992 عندما وقعت “ثورة الدواليب” ضد حكومة الرئيس عمر كرامي واتُهمت “القوات” بأنها تقف وراءها، وأنها تنفذ انقلاباً فاتخذ القرار في سوريا بحلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية في ذلك العام، بعدما كانت مقررة في ربيع العام 1994 وكانت “القوات اللبنانية” تعد نفسها كحزب سياسي لخوضها. ولكنها وجدت نفسها مضطرة لخوض معركة مقاطعة انتخابات ذلك العام. فانقطعت أي عملية تواصل معها. وبدأت الحرب عليها.

 

ضد القبضة السورية

 

دخول الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد تلك الإنتخابات لم يبدّل في طريقة التعاطي مع “القوات”. كانت القبضة السورية أطبقت على السلطة بكامل تفاصيلها انطلاقاً من التحكّم بالأكثرية في مجلس النواب. وضمن هذا الجو غطت السلطة ملاحقة “القوات” واتهامها بتفجير كنيسة سيدة النجاة وبحل “الحزب” واعتقال الدكتور سمير جعجع في 21 نيسان 1994. اعتقدت سلطة الوصاية أنها انتهت منه وأنه سيمضي بقية حياته في السجن ولكنه اختار أن تستمر المواجهة من داخل السجن ولو من خلال القضاء الخاضع أيضا لسلطة الجهاز الأمني اللبناني- السوري الذي كان يُفبرك الملفات ويجري التحقيقات ويقدمها إلى القضاء الذي يأخذ بها على قاعدة أن الأجهزة لا تخطئ. ولكن على رغم كل ذلك لم يكن من الممكن بناء على الوقائع والأدلة الحكم على جعجع بتفجير الكنيسة. عندما تبلّغ الحكم ببراءته شعر وكأنه ربح المعركة وأنّ مسار المحاكمة ستكون له نهاية والمسألة مسألة وقت وهو طالما ردد أنه دخل إلى السجن بقرار سياسي ويخرج منه بقرار سياسي، وأن المهم أن لا ينهزم وأن يبقى متماسكاً وصلباً ومؤمناً بالتضحية من أجل المبادئ التي سقط من أجلها آلاف الشهداء.

 

في العام 1998 انتهت سلسلة المحاكمات التي خضع لها وشعر بعدها أنه صار في الإستيداع. انتهت ولاية الرئيس الياس الهراوي وتمّ التمديد له وهو في السجن وانتخب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية وهو في السجن وتمّ التمديد له وهو في السجن. كانت القبضة السورية تدير الدولة من دون معارضة وكان التركيز الدائم على إبقاء “القوات” تحت الأرض.

 

عندما آن الأوان

 

إعتباراً من العام 2000 ستبدأ مؤشرات التغيير بالظهور. انسحب الجيش الإسرائيلي من لبنان في 25 أيار. توفي حافظ الأسد في 10 حزيران وتسلّم ابنه بشار الرئاسة بعده. في 20 أيلول صدر نداء المطارنة الموارنة الذي أعلن أنه آن الأوان لسحب الجيش السوري من لبنان. وفي نيسان 2001 تمّ انطلاق لقاء قرنة شهوان برعاية البطريرك صفير وبمشاركة “القوات” الأمر الذي شكل بداية جديدة لها في الخط السيادي الذي دافعت عنه ودفعت الثمن.

 

11 ايلول 2001 كان تاريخاً مفصلياً في التحولات العالمية. الهجمات الإنتحارية بالطائرات التي تعرّضت لها أميركا كانت كفيلة بتغيير وجه العالم ومنه لبنان. بعد أقل من شهر اسقط الجيش الأميركي حكم طالبان في أفغانستان. وبعد عامين أسقط حكم الرئيس صدام حسين في العراق ووصلت القوات الأميركية إلى الحدود السورية. وكان من الطبيعي أن تتردد أصداء هذه التحولات في لبنان ببدء توسع دائرة الإعتراض على الوصاية السورية التي انطلقت من بكركي، فتلاقى معها رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، وبصورة أقل ظهوراً الرئيس رفيق الحريري الذي خاض مع جنبلاط صراعا قوياً ضدّ سلطة الرئيس لحود منذ انتخابات العام 2000.

 

في أيلول 2004 كانت أنظار العالم مركزة على لبنان. عندما أصدر مجلس الأمن القرار 1559 الذي طلب تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية وسحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”. على رغم ذلك صدر قرار الأسد بالتمديد للحود بعد تهديد الرئيس الحريري. نهاية ذلك العام ستشهد تحولاً كبيراً من خلال توقيع عريضة تطالب بالعفو عن سمير جعجع. سيزور وليد جنبلاط بيت جعجع في يسوع الملك وسيتصل رفيق الحريري بزوجته ستريدا لمعايدتها متمنياً “أن يكون الحكيم بيننا في العيد المقبل”. كانت تلك قمة التجرؤ على الوصاية السورية وقبضتها الحديدية التي بدأت تتلاشى. واعتباراً من ذلك التاريخ بدأت عملية التحضير العملي لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في أول تشرين الأول 2004 زادت زخم المعارضة بدل أن تخيفها. في 14 شباط 2005 شعر سمير جعجع بحركة غريبة في السجن. أصوات سيارات إسعاف تنقلها التلفزيونات مباشرة على الهواء. قدّر أن حدثاً كبيراً حصل. منع من الخروج اليومي للمشي. عندما جاءت والدته لزيارته قالت له “يا حرام قتلوا الحريري”. كانت هذه العبارة كافية لكي تنتهي المقابلة، ولكنّ جعجع كان قد عرف بالأمر. اعتبر أن هذا الإغتيال يشكل بداية النهاية للإحتلال السوري في لبنان وبداية لخروجه من السجن. الإشارة الأساسية كانت بنقله من الطابق الثالث تحت الأرض إلى زنزانة على مستوى الأرض. عبثاً ضاعت محاولات إقناع رئيس الجمهورية إميل لحود بإصدار عفو خاص عنه ولكن هذه المسألة باتت في حكم الساقطة عندما صار عهد لحود كله بحكم الساقط.

 

من الإعتقال إلى الرئاسة

 

إغتيال الحريري هزّ العالم ولبنان عندما تمت المطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان خلال تشييعه. إلتقت الإرادات اللبنانية في لحظة تاريخية بين تحميل النظام السوري مسؤولية اغتيال كمال جنبلاط والرئيس بشير الجميل والمفتي حسن خالد والرئيس رينيه معوض والرئيس رفيق الحريري. كان التحذير الأميركي واضحاً للأسد. في 5 آذار انصاع للقرار وأعلن أن جيشه سيبدأ بالإنسحاب إلى سوريا. وعبثاً حاول “حزب الله” في 8 آذار ثنيه عن هذا القرار في يوم الشكر الحاشد الذي تحدث فيه السيد حسن نصرالله في وسط بيروت. بعد أسبوع فقط تمّ الرد بحشد كبير في 14 آذار أطلق “ثورة الأرز” التي طالبت بالسيادة والحرية والإستقلال. كانت انتخابات العام 2005 رداً على انتخابات العام 1992. في سجنه تحوّل سمير جعجع إلى مجرد مقيم بانتظار الخروج وصار يستقبل الحلفاء والمهتمين بالإنتخابات، ومن بين الذين زاروه سعد الحريري والعماد ميشال عون وجبران تويني… كان يشارك في إدارة تحالفات انتخابية لم تأخذ فيها “القوات” حجمها الطبيعي، ولكنها بعدما كانت محظورة ومحاصرة وممنوعة صار لها خمسة نواب ووزير في الحكومة التي تشكلت برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة بعد الإنتخابات في 19 تموز.

 

بعد أسبوع فقط كان سمير جعجع يخرج من السجن الصغير إلى الحرية عبر مطار بيروت ليستعيد دوره وليطلق بداية جديدة في الخط الذي مثّله ومثّلته “القوات اللبنانية”. على خط مناقض عاد العماد ميشال عون في 7 أيار من باريس بعدما أنجز اتفاقاً في أواخر العام 2004 مع عهد الرئيس لحود ومن خلاله مع سوريا، بحيث تعاد له حقوقه المادية وتبطل الدعاوى المرفوعة ضده مقابل عدم التحالف مع قوى 14 آذار. هذا الإتفاق وجد ترجمته العملية في تفاهم “مار مخايل” بينه وبين “حزب الله” في 6 شباط 2006. واعتقد أنه يمكن أن يكون رئيس الجمهورية الجديد بعد انتهاء عهد لحود وبعدما كانت فشلت الحملة من أجل إستقالة لحود، الذي بقي معزولاً في القصر الجمهوري في ظل أكثرية نيابية معارضة له وحكومة لا يستطيع تعطيلها. في ظل هذه الأوضاع أعاد جعجع تنظيم عمل “القوات اللبنانية”. ووجد نفسه مجدداً في قلب معركة استعادة السيادة والتصدي لمحاولات “حزب الله” وعون الإنقلاب على نتائج الإنتخابات وعلى الحكومة، من خلال محاصرة السراي واستمرار مسلسل الإغتيالات التي فرضت ما يشبه الإقامة الجبرية على عدد كبير من النواب.

 

هذه المواجهة أخذت “حزب الله” إلى عملية 7 أيار 2008 العسكرية في بيروت والجبل ضد رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري الذي وقع عليه الخيار ليكمل طريق والده، وضد رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط وقد أدت العملية إلى “تفاهم الدوحة” الذي تحفّظت عليه “القوات” وأوصل العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية. إنتخابات 2009 أعطت “القوات” 8 نواب وأبقت الأكثرية مع 14 آذار. وأدخلت سعد الحريري إلى السراي ولكن في حكومة أعطي فيها “حزب الله” وحلفاؤه الثلث المعطل. هذا الثلث تم استخدامه لإسقاط الحريري والحكومة في كانون الثاني 2011 وتكليف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة موالية “للحزب”، بعد إعادة التموضع السياسي التي نفذها جنبلاط. قبل عامين من انتهاء ولاية سليمان ارتسمت معركة رئاسة الجمهورية من جديد. في 4 نيسان 2012 تعرّض جعجع لمحاولة اغتيال بإطلاق قناصين النار عليه في مقره في معراب ولكنه نجا. في 4 نيسان 2014 كان يعلن ترشحه لرئاسة الجمهورية. بعد تسعة أعوام على خروجه من السجن الذي أمضى فيه 11 عاماً عاد إلى الواجهة السياسية من الموقع الأول للجمهورية. محاولة اغتياله كانت بمثابة تذكير باغتيال بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية وكأنه كان مطلوباً أن يكون هذا الإغتيال محاولة لمنع جعجع من سلوك هذا الطريق. ولكن على رغم ذلك عادت معركة الرئاسة وانحصرت بينه كمرشح لقوى 14 آذار وبين ميشال عون كمرشح لـ”حزب الله” وقوى 8 آذار. في جلسة الإنتخاب التي عقدت في 22 نيسان وحضرها 124 نائباً حصل جعجع على 48 صوتاً وهنري حلو على 16 وأمين الجميل على صوت وألغيت سبعة أوراق بينما وضعت 52 ورقة بيضاء. ومنعاً لوصول جعجع تمّ تعطيل جلسات النصاب والإنتخاب.

 

سيناريو المنع يتكرر

 

مرة جديدة يتم استخدام الأوراق البيضاء وتعطيل النصاب لمنع وصول مرشح مثل ميشال معوض لرئاسة الجمهورية. ومرة جديدة عادت العلاقة بين جعجع وعون إلى المدّ والجزر بشكل أعاد إلى الذاكرة مرحلة ما قبل انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وحكومة عون العسكرية. كان على جعجع أن يجتاز مرة جديدة الطريق نحو ميشال عون. على هذا الأساس كان تفاهم معراب معه في 18 كانون الثاني 2016 وترشيحه لرئاسة الجمهورية. ولكن كما فعل عون بين 23 أيلول 1988 و13 تشرين الأول 1990 فعل بين العام 2016 والعام 2022. إنهارت الدولة والمؤسسات وحصلت ثورة 17 تشرين 2019 ثم انفجر مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وعمت العتمة كل لبنان، بحيث بدا وطناً بلا حياة وبلا مستقبل وبلا أمل. ومع ذلك بدأ تعطيل جلسات انتخاب الرئيس.

 

بعد انتخابات أيار 2022 النيابية ظهر تقدم “القوات” نيابياً وشعبياً وتراجع الرئيس عون و”التيار الوطني الحر”. ولكن كما في العام 2008 وفي العام 2016 هناك محاولة لفرض رئيس للجمهورية يتبنى استراتيجية “حزب الله” مقابل التعطيل واستمرار الإنهيار. 1 تشرين الأول يختتم عهد ميشال عون بالفراغ. إختار أن يخرج من القصر في 30 تشرين الأول وسط تحركات مناصري “التيار” تعويضاً معنوياً عن خسارة سياسية وتداعيات وانكسارات. سيكون هذا الخروج بداية الطريق فيها مع استمرار البحث عن تسويات وصفقات وأدوار ولكن خارج الحكم من أجل البقاء في اللعبة السياسية. ثمة انقلاب في الأدوار وفي لعبة الأقدار. الفيلا التي شيدت للرئيس عون في الرابية تشبه جبران باسيل أكثر مما تشبهه. في المقابل تبدأ “القوات اللبنانية” مسيرة جديدة في الحياة السياسية وسط تعقيدات الملف اللبناني. صحيح أنّ جعجع لم يترشح ولكن هذه المرة ثمة معادلات جديدة ترتسم ليس أقلها أنّ “حزب الله” وحلفاءه لا يمكنهم أن يتحكموا بمصير الرئاسة والجمهورية. قد يكون الفراغ الرئاسي فترة انتظار من أجل إعادة تكوين السلطة في لبنان أو من أجل تسريع الإنهيار والفوضى. في المسارين تجد “القوات” نفسها في قلب اللعبة لاعباً مؤثراً وفاعلاً لم تتخلَّ عن دورها، وتعتبر أنّها مستمرة في تحمل هذه المسؤولية وأنّ الأيام ستظهر أنها على حق.