IMLebanon

لبنان بين النظيفوقراطية والنزيفوقراطية

 

د. بيار الخوري أكاديمي وخبير اقتصادي

ليس ما جرى منذ 17 تشرين الأول في لبنان عابراً، ولا هو حراك شعب نزل لإسماع صوته وسُمع صوته، ولا تشبه مطالبه اية مطالب سابقة عليه… وكذلك احلامه. ولا يشبه ما صنعه اللبنانيون في عيد استقلالهم السادس والسبعين كل ما احتفلوا به عبر تاريخهم الطويل.

 

لم يعد يشبه اللبنانيون اي مكوّن منهم. هم طوائف وهم مواطنون، هم نساءٌ ورجال وشاباتٌ وشبابٌ يأتون من اديانهم وطوائفهم ومناطقهم الى رحاب ساحة، مهما اسبغنا عليها من اسماء فهي ساحتهم الى يوم الدين: فهم اهل الشهداء واحفاد عبد الحميد ورياض واوتوستراد الغد ودوّار الكفر، وكل اسم نزل فيه هذا الطيف وعمدّه غسلاً من طائفيته وتعففاً عن فساده وانقلاباً على عجزه المزمن.

 

لا يشبه لبنان اليوم اي يوم في تاريخه، علماً انّ للبنانيين اياماً من المجد والكرامة التي يبهى بها كل اللبنانيين، رغم احتكار الطوائف لها. تشبه بيروت فقط اسواقها القديمة التي كانت تعج باللبنانيين، ولكن الناس ليست هنا للبيع والشراء بل لقلب طاولة تجّار الهيكل.

 

مشهد الساحات يوم الاستقلال هو تاريخ جديد سيقوى حتى على تاريخ شرارة الانتفاضة التشرينية: استقلال بلا تكاذب وبلا فولكلور مضحك مبكٍ. استقلال بلا تركة الفرنسي الثقيلة التي استجلبت تركات اغرقتنا بالضياع بين صحة القضايا وعلّة حامليها.

 

مشهد اللبنانيين الجدد لم يعد من الممكن تجاوزه لا بالسياسيين ولا بالتكنوقراط ولا ما بينهما. هذا المشهد اليوم هو لبنان الذي ضاع طويلاً رغم انّه لم يوجد يوماً. المشهد الذي لا يشبه من يعادي الغرب وهو يلبس لبوسه، ولا تستطيب له سلطة دون الشراكة معه، ولا يشبه الغرب الذي لا يرى فينا سوى بوابته لمزاحمة «شياطين» الشرق من دمشق وطهران الى موسكو وبايجينغ.

 

من له عينان فلينظر، ومن له اذنان فليسمع، لهذا الشعب طريق واحد هو طريق القيادة النظيفة والمنزّهة والقادرة. وكل ما تجتهدون به من معادلات حسابية هو من الماضي لا حاضر يتلوه سوى بنوعية القيادة اعلاه. لا تخيّروا اللبنانيين بين هذه الدولة الخارجية وتلك، بل خيّروهم بصراحة بين الدولة العفنة والدولة الحديثة. لا تخيّروا اللبنانيين بينكم وبين الحرب، فأنتم الحرب ووجوه الحرب وما جاءت لنا به الحرب.

 

البلاد باتت في صلب الانهيار الاقتصادي، اقتصادكم رميم ولا احد سيحيي عظامه. فلا تهدّدوا احداً بالانهيار الاقتصادي. لكن الشعب اللبناني، وللمفارقة، قد خرج من انهياره الذاتي: لنبني على هذا!

 

امامنا َوامامكم فرصة لحكومة نظيفة، وبيدكم وحدكم استمرار النزيف، وانتم من يجب ان يختار، لأنّ الناس قد اختارت، ورسالة الاستقلال واضحة: نحن اناس مختلفون في اهوائنا ولكن متفقين انّ بلدنا يستطيع.

 

تريدون ضمانات استراتيجية للطوائف والمحاور، ونريد ضمانات لكرامة الإنسان ومستقبل الشباب، والتسوية على هذه القاعدة ممكنة قبل الانزلاق نحو الفوضى، التي سيذكر التاريخ انكم انتم صنّاعها وانتم مستثمروها.

 

بين استمرار النزيف والقيادة النظيفة ما هو ابعد من الحكومة التكنوسياسية والتكنوقراطية والسياسية، بينهما يتحدّد الفارق بين الحكومات النزيفوقراطية والحكومات النظيفوقراطية.

 

عشنا وعاش لبنان.